بالنقاط.. أم بالضربة القاضية؟
د.سلمان العودة
لاتزال تلك اللحظة مرتسمة في خيالي حين هبطت علي أرض مطار القاهرة الدولي وصافح وجهي نسيمها العليل,ورفعت رأسي صوب بوابة الاستقبال فإذا مكتوب عليها بخط جميل( ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين)..كانت تلك زيارتي الأولي التي حولت حلمي البعيد إلي واقع.. مازلت انتظر تكراره!.
سنظل نتلو هذه الآية في صلواتنا مادام علي ظهر الأرض حياة, وسيظل المصري يستلهم منها روح التفاؤل والأمل والتسامح والانضباط والتطلع لمستقبل أفضل مهما كانت معطيات الواقع لا ترشد إلي ذلك.
لن يقبل المصري الأصيل أن يوقد عود ثقاب يحرق أرضه تحت شعار( تغد بالحجاج قبل أن يتعشي بك).. ذلك القول الكاذب الذي كان سببا في حروب طويلة ضاعت بداياتها, لأنها بدأت حين زاد توجس كل طرف من غريمه ورأي أن الضربة الاستباقية هي الحل!.
يجب أن نفرق بين العمل الثوري كالمظاهرات السلمية والهتافات ووسائل التعبير المدنية وبين الخروج علي القانون واستخدام القوة أو التهديد بها, فالتهديد بالعنف هو من العنف.
مصر هي دار السلام بتاريخها وجغرافيتها وإنسانها ومائها ومجتمعها الريفي الميال إلي التسامح الكاره للقسوة والخشونة والذي لا يحمل ذاكرة معبأة بالعنف والمذابح وإبادة الآخر المختلف.
فما الذي تغير حتي وجدنا صوتا أنثويا علي الهواء يزعم أنه صوت الشعب ويقول إنه سيستخدم طريق الأدب وطريق القانون وطريق القسوة أيضا فالعنف بالعنف والشعب يقبل التحدي.. مسكين أنت أيها الشعب كم يظلمونك حين يحملونك وزر نزواتهم ويتكلمون باسمك!.
من غير المقبول أن نرفض العنف الموجه ضدنا ونغض الطرف عن عنف مشابه موجه لخصومنا أو ننشغل بتأويله والاحتيال علي المبادئ!.
وادي النيل المنبسط الذي تتركز فيه غالبية السكان رسخ قيم الاجتماع وجعل المصري يعتمد بشكل متزايد علي روابط الأسرة والعشيرة, ولذا كانت إرادة الوحدة والسلام تنتصر في مصر في كل مراحل التاريخ علي خيارات التشرذم والانقسام.
تأثرت مصر بأوروبا وكتب د0طه حسين( مستقبل الثقافة في مصر) وشهد عقد الثلاثينيات مجاميع شبابية تتزيا بزي خاص وتسير علي خطا أدولف هتلر وتواجه خصومها بالقوة, كما تأثرت بالشرقوشعار المطرقة والمنجل,كما تأثرت بمحيطها العربي والخليجي, وتبنت فصائل إسلامية معروفة مواجهة الحكومة بقوة السلاح ثم أعلنت( مراجعاتها) وغيرت فكرها وانخرطت في العمل المدني.
ولعل انتشار ثقافة العنف يشبه انتشار تجارة السلاح وهو من سماتالمرحلة الانتقالية عقب الثورات والتغيرات السياسية الكبري, وقد مرت أحداث قلقة كيوم الإعلان عن أحكام مذبحة بورسعيد فلم تنشب حرب أهلية ولا انهارت الدولة, ولكن حدثت مظاهرات سلمية تحولت في المساء إلي مولوتوف وقنابل غاز وقتلي وجرحي.
جمع التوقيعات طريقة رشيدة للتعبير عن الرأي مثل المظاهرات والشعارات, وحرية التعبير من أهم إنجازات ثورة25 يناير, لكن علينا أن نرفض( عسكرة المواعيد) في المخيلة الشعبية عبر تكرار الحديث الإعلامي والسياسي عن مواجهات محتملة مع( ميليشيات إسلامية) وعن استعداد لصد الهجمات أو عبر توعد المتظاهرين وتهديدهم بالسحق وحرمانهم من حقهم المدني.
إن شعار( يرتفع الصوت أو ينزل الموت) هو استدعاء لاحتمالية العنف وتطلع إلي استشهاد زائف, وإن وضع تصورات( اليوم التالي) أو الحديث عن سيناريوهات( مابعد الرحيل) ليس خيارا فاضلا.
ومع التسليم بإخفاقات الحكومة في التعامل مع حلفائها وخصومها علي السواء وعجزها أمام تحديات خدمية كالبنزين والكهرباء إلا أن القوي المؤيدة لها قادرة علي إسقاط أي رئيس محتمل بالطريقة ذاتها وهو نفق لا يتمني المخلصون أن تنجر إليه مصر.
لم تكن مصر محتاجة للسلام كحاجتها إليه هذه الأيام, فالصراع ليس بين الحكومة والمعارضة فحسب, بل ثمة شرخ ممتد بين شرائح المجتمع المصري تجب محاصرته عبر شراكة حقيقية بين الحكومة وقطاع الأعمال والمجتمع المدني والاتفاق علي رؤية استراتيجية طويلة الأجل.
أما معارك الحكومة والمعارضة فيجب أن تكون استراتيجيتها الفوز عبر النقاط وليس بالضربة القاضية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق