في جدارنا ثغرة
فهمي هويدي
قصة محافظ الأقصر الجديد الذي ينتمي إلى الجماعة الإسلامية، وآثر ألاّ يتسلّم منصبه وأبدى استعدادا للاستقالة منه ما لم يتوافق أهل المحافظة على القبول به.حدث مصري نادر يستحق أن نتوقف عند دلالاته.
من حيث المبدأ، فلستُ أرى غضاضة في تعيين أحد أعضاء الجماعة الإسلامية بعد مراجعة أفكارها وطيّ صفحة ماضيها في منصب رفيع بالدولة إذا توافر له شرطان، الأول أن يتمتع بكفاءة تؤهله لشغل المنصب، والثاني أن يكون مقبولا من الناس.
والمشكلة الثانية محلولة تلقائيا في الديمقراطيات التي ينتخب فيها المحافظون وحكام الأقاليم، ولا يعيّنون من قبل السلطة التي تحرص على التحكم في كل شيء.
وفي حالة محافظ الأقصر الجديد المهندس عادل الخياط نلاحظ أنّه تعرّض للهجوم والتجريح لمجرد أنّه انتمى إلى الجماعة الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي، ولم تكن له أيّة علاقة بالعنف أو الإرهاب، ولم ينظر أحد إلى كفاءته المهنية التي أثبتها خلال مسيرته الوظيفية التي قاربت خمسة وثلاثين عاما.
وللعلم فإنّ الرئيس الراحل أنور السادات الذي شارك في قتل وزير المالية أمين عثمان في عام 1946، تولّى رئاسة الجمهورية في مصر بعد ربع قرن تقريبا، ولم يعيره أو ينتقده أحد بسبب تهمة القتل الذي كان قد اشترك فيه.
مع ذلك فينبغي أن يحسب لحزب البناء والتنمية الذراع السياسية للجماعة الإسلامية عدة أمور.
منها إدراكهم أنّ نظرة المجتمع إليهم لا تزال مشوبة بالشكوك وليست إيجابية بشكل كاف.
ومنها اعتراضهم على تعيينه في محافظة الأقصر التي قرؤوا أوضاعها جيدا واقتنعوا بأنّه ليس من الحكمة ولا من المصلحة الوطنية في الظروف الراهنة أن يكون مثله محافظا لها.
منها أيضا أنّهم نصحوا المحافظ الجديد أن يلزم داره في سوهاج ولا يذهب إلى الأقصر لتولّي المنصب الذي عيّن فيه إذا استمر رفض المجتمع له هناك.
لك أن تتصور شعور الجماعة الإسلامية بتعيين واحد من المنتسبين إليها في منصب المحافظ، وهو الوضع الذي لم يحلموا به يوما ما.
وحين يعرف المرء أنّ غيرهم من ممثلي بعض الجماعات التي ساندت الرئيس مرسي لا يكفّون عن التساؤل عن حصتهم وحظوظهم في المناصب الرفيعة في الحكومة والمحافظات والمدن والأحياء، فلا بد أن يحيّا زهد الجماعة الإسلامية في تلك المناصب وعزوفهم عمّا لا يرونه منها محققا للمصلحة العامة. وهي القضية التي ينبغي أن تحتلّ الأولوية في أيّ تفكير سياسي رشيد.
قلت أمس إنّ المكتب السياسي للحزب أوفد أحد قيادييه لإقناع مؤيدي المحافظ الجديد بالكف عن التجمهر وإخلاء الميدان لتجنُّب فتنة الاشتباك مع معارضيه، في مسلك قدّم المصلحة العليا على الإنجاز الذي تحقق للحزب.
وبذلك فإنّ الجماعة ربما تخسر موقعا لكنها في الوقت ذاته سجّلت موقفا واعيا، مشابه لذلك الذي سجّلته في ترشيحات الجمعية التأسيسية للدستور، حين تنازلت عن بعض حصتها لإرضاء الآخرين وتيسير حدوث التوافق للجمعية.
الذي أثار انتباهي في هذا الصدد أنّ قراءة الجماعة للواقع في محافظة الأقصر كانت أكثر نضجا من قراءة السلطة لها، فقد رأت الجماعة ما لم تره أو تكترث به السلطة، في حين يفترض أنّ لديها من الإمكانيات ما يسمح بتوفير القراءة الصحيحة لذلك الواقع.
ولا أخفي أنّ ذلك الاعتبار خوّفني أيضا لأنني وجدت الحالة التي نحن بصددها نموذجا للاختيارات الخطأ التي تقع فيها السلطة، خصوصا فيما خصّ المسؤولين والقيادات التنفيذية.
والأزمة التي أحدثها وزير الثقافة الجديد بعد تولّيه السلطة نموذج آخر لتلك الاختيارات الخطأ التي تكررت في حالات أخرى، في مجالي الوزارة والاستشارة.
إن شئت فقل إنّ ما حدث مع محافظ الأقصر يعني أنّ ثمة ثغرة خطيرة تشوب عملية اختيار المسؤولين، تتعلق بتغييب عنصر الملاءمة في القرارات التي تتعلق باختيارهم.
وأكرر أنّها «ثغرة» حتى لا يعمم الحكم على الجميع، وفي حدود معرفتي فإنّ السياسة كلها ملاءمات على أساسها يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب، الذي يؤدي إلى وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، كأننا بصدد ثلاثة شروط للثقة في القرار تتعلق بمضمونه وبقدرات الشخص وبملاءمته لطبيعة الموقع الذي سيشغله، وتلك الظروف قد تغيب كلها، كما في الإعلان الدستوري الشهير مثلا، وقد يغيب عنها شرطان كما في حالة وزير الثقافة، وقد يغيب فيها شرط واحد كما في قصة محافظ الأقصر.
لا أعرف عدد الذين مرّوا علينا من ثغرة عدم الملاءمة، لكني أزعم أنّها ثغرة خطيرة تجرح القرار السياسي وتقلل من منسوب الثقة فيه، وأفهم أنّ ثمة مواقع يمكن أن يحتمل أو يغتفر فيها غياب الملاءمة عن القرار، لكن هناك مواقع أخرى يصبح فيها ذلك التغييب أمرا كارثيا له عواقبه الوخيمة.
وسوف أترك لك يا عزيزي القارئ مهمة تنزيل المعايير التي ذكرتها على بقية خرائط الواقع، لأنني ما عدتُ مستعداً لخسارة مزيد من الأصدقاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق