الثلاثاء، 27 يناير 2015

حرية التعبير: ما وراء القناع.

حرية التعبير: ما وراء القناع..
أحمد بن راشد بن سعيّد

كانت الرواية التي سادت المشهد بعد الهجوم على المجلة الفرنسية، شارلي إبدو، هي أن الحرية ذاتها تعرضت لهجوم، وأن الوقوف ضد ما يُسمى «الإرهاب» يكون بالانحياز إلى المجلة والدفاع عن «قيمها»، مع أن المجلة بعيدة كل البعد عن الحرية «الليبرالية» التي تشدد على «احترام» حرية الاعتقاد والفكر، وبعيدة أيضاً عن الديموقراطية التي تسعى إلى «صهر» شرائح اجتماعية غير متجانسة في «بوتقة» مجتمعية واحدة من دون إنكار لتنوعها واختيارها.
 لكن الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، كان سريعاً في تأطير الحادثة بوصفها «هجوماً على الحرية»، وكذلك صرّحت المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل: «هجوم على حرية التعبير والصحافة، عناصر جوهرية في ثقافتنا الديموقراطية الحرة». وأدلى جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، بدلوه في الدفاع عن الحرية والديموقراطية قائلاً: «لا يوجد بلد يعرف أن للحرية ثمناً أفضل من فرنسا، لأن فرنسا هي التي أنجبت الديموقراطية نفسها»، مشيداً بالقلم الذي هو أقوى من سلاح «الإرهابيين»، مضيفاً: «ليس قلماً فحسب، بل قلم يمثّل آلة للحرية لا الخوف». عانق كيري هولاند في مشهد عاطفي حميم وكأنه يقول: «هذا هو 9/11 الفرنسي»، وهي المقارنة التي عقدتها وسائط إخبارية عدة منها شبكة سي إن إن، وجريدة هاآرتس الإسرائيلية.
كانت هجمات 9/11 موجهة ضد «الحرية» بحسب ما أعلن الرئيس الأميركي السابق جورج و.بوش, وردد صداه مسؤولون أوروبيون، مع أن «ابن لادن والقاعدة»، كما تشير عالمة الدعاية الأميركية نانسي سنو في كتابها «حرب المعلومات»، لم يصدروا «أية إشارة محددة تتضمن سخطاً على الديمقراطية الأميركية أو كراهية للشعب الأميركي»، بل ذكروا «مظالم محددة تتعلق بسياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط وهيمنتها في المنطقة».
تصدّرعنوان «الحضارة تتعرض للهجوم» عناوين الأخبار في أميركا بعد 9/11. 
من المهاجمون؟ إنهم «الهمج» و «الأشرار» و «الجبناء».
من الضحايا؟ إنهم «المتحضرون» و «الأخيار»،و«الشجعان»- ثنائية ((binary، أو ضدية (dichotomy) تنزّه الذات وتشيطن الخصم مستدعية إلى الذهن معارك أخلاقية لا توحي بغير اللونين الأبيض والأسود. استحضار «التعميمات البراقة» (glittering generalities) كالحرية والديموقراطية والعدالة تكتيك دعائي يهدف إلى الاستتباع وصناعة القبول، فلا أحد يستطيع الوقوف ضد هذه المعاني الجميلة ودلالاتها.
الخطورة أن إطلاق هذه التعبيرات المطاطة والهلامية له ما بعده، إذ يسعى منتجها إلى بناء مشروعه على أساسها من خلال انتقاء أحداث حقيقية واستغلالها (تكتيك دعائي آخر هو «التلاعب بالأوراق» card stacking) لجعل قضيته تبدو عظيمة ونبيلة أو على الأقل ضرورية، وجعل قضية العدو تبدو تافهة وخسيسة، أو على الأقل غير ضرورية، ما يمهّد الطريق لسياسات لم تكن مقبولة من قبل، كتقييد الحريات المدنية، أو فرض الأحكام الاستثنائية، بل حتى شن الحرب على بلدان أخرى.
وكما قال جوزِف غوبلز، مهندس الدعاية النازية، «لا حاجة إلى أن تكون الدعاية غنية بالمضمون الفكري»، ولذا يجب التركيز على التعبيرات الفضفاضة التي لا تحمل معنى محدداً، كالديموقراطية والحضارة والخير والسلام، وهي كفيلة بدفع الرأي العام إلى خانة الإذعان والتسليم.
وعوداً إلى «شارلي إبدو»، فإن خطاب «الحرية» يستدعي على الفور ضده، وهو العبودية والتخلف. لكن ماذا عن مصادرة حرية المرأة المسلمة في فرنسا سواء في ارتداء الحجاب أو النقاب؟ تقول سونالي كولهاتكر، مقدمة ومنتجة برنامج «أبرايزِنغ» في إذاعة كي بي إف كي بولاية كاليفورنيا، إن حظر النقاب دفع بعض الناس إلى الاحتجاج ضد «هذا الهجوم على حرية الدين واللباس»، لكن لم تحدث أية «مسيرات ضخمة ولا خطابات مهيبة لرؤساء دول تندد بانتهاك حريات الناس. على العكس، لقد عُدّ الحظر إعلاءً للقيم الفرنسية». تنتقد كولهاتكر «الكم الهائل من المعايير المزدوجة» في التعامل مع المسلمين قائلة: «أنا ملحدة، ولا أكترث كثيراً بأي رؤى أو أساطير أو تقاليد دينية» لكن «كشطَ جزءٍ صغير من سطح كل مفهوم من مفهومات النفاق، واحداً تلو الآخر، يقود إلى نهايات مزعجة ولا يمكن إنكارها: لا بأس بإهانة دين واحد فقط وأتباعه الـ 1.6 بليون، وعلينا أن نُؤيد حرية التعبير ضد المسلمين مهما تكن التكاليف».
تستشهد كولهاتكر بقصة حدثت خلال العام الماضي في فرنسا لتدلل على أن حرية التعبير ليست سوى قناع يخفي وراءه «إسلاموفوبيا».
في بلدة الساك-موسيل (الألمانية سابقاً) أقامت مجموعة مسلمة دعوى ضد «شارلي إبدو» بسبب عنوان مسيء للقرآن (أعتذر عن نشره لبذاءته)، فاعتمد محرر المجلة من أجل حماية نفسه على قوانين قديمة خاصة بالبلدة تمنع التجديف ضد المسيحية واليهودية، ولكن ليس ضد الإسلام. ستيفان شاربونييه (الذي قُتل في الهجوم على المجلة) كان واثقاً من نتيجة الدعوى قائلاً حينها: «نحن نعرف مقدماً أن المحاكمة لن تشق طريقها لأن الإسلام ليس في مدوّنة القانون» (موقع كمُن دريمز، 16 كانون الثاني/يناير 2015). إسلاموفوبيا لا حرية تعبير، أو بحسب تشومسكي، «عنصرية مألوفة تحت غطاء حرية التعبير».
لم يكن الصهيوني روبرت مردوخ وحده من حمّل «كل» المسلمين المسؤولية عن هجوم شارلي إبدو، بل حتى صداه في جريدة «الشرق الأوسط»، عبد الرحمن الراشد، الذي كان متحمساً كعادته للقفز إلى العربة، اعتنق في عموده فاشية مردوخ، مقتبساً في العنوان عبارته: «المسلمون يتحملون مسؤولية الإرهاب».
البيولوجي البريطاني، ريتشارد دوكِنز، غرّد في تويتر: «لا، ليست كل الأديان متساوية في العنف. بعضها لم يكن عنيفاً على الإطلاق. بعضها تخلى عن العنف منذ قرون. دين واحد، بالطبع، لم يفعل ذلك».
كولهاتكر تسخر من دوكنز قائلة إنه فاتته حتماً قائمة «أسوأ 10 هجمات إرهابية في أميركا، نفّذها أصوليون مسيحيون ومتطرفون من أقصى اليمين، وتضمنت اعتداءات وحشية وقاتلة على عيادات الإجهاض، فضلاً عن مذبحة 2012 في معبد سيخي بولاية وسكانسِن».
ما فات أيضاً دوكنز والراشد ولفيفاً من الليبروفاشيين «العرب» مذبحة النرويج عام 2011 التي قتل فيها المتطرف المسيحي، أندرِس بِهرِنغ بريفيك، نحو 100 شخص مستبقاً الجريمة بالدعوة إلى «الاستشهاد» في المعركة ضد «التهديد المتنامي للإسلام» والمهاجرين (المسلمين).
إن استدعاء رواية «حرية التعبير» في كل مرة يتعرض فيها الإسلام إلى الإساءة، ليس سوى نتاج إرث مديد من التعصب والكراهية (وليس الرهاب أو الفوبيا فقط). 
«طوال معظم القرون الوسطى»، كتب إدوارد سعيد في عمله الكلاسيكي «تناول الإسلام»، «وخلال بدايات عصر النهضة في أوروبا، ساد الاعتقاد بأن الإسلام دين شيطاني؛ دين ردة وتجديف وظلام. لم يكن مهماً أن المسلمين اعتبروا محمداً نبياً لا إلهاً؛ الذي كان مهماً للمسيحيين أن محمداً كان نبياً زائفاً، باذراً للشقاق ...» الاحتفال برسوم «شارلي إيبدو»، ومن قبلها رسوم صحيفة يولاند بوستن الدنماركية، وتكريم سلمان رشدي (منحته ملكة بريطانيا لقب «فارس» وحصل على جائزة بن بنتر)، وتسليمة نسرين (منحها الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي جائزة سيمون دي بوفوار) ليس إلا قناعاً يخفي وراءه المشاعر القديمة ذاتها تجاه الإسلام: الخوف، الجهل، الكراهية.
ليس منطقاً ولا عدلاً أن يُشهر سيف «حرية التعبير» تأييداً لإهانة دين يعتنقه ربع سكان الأرض، بينما يُشهر سيف آخر يُجرّم ما يشير إلى العداء لليهود أو «إنكار المحرقة».
الحرية هنا نفاق صارخ لا ينتهك حقوق الإنسان المسلم والعربي فحسب، بل يؤجج الكراهية، يعمّق الفجوة بين الشرق والغرب، ويجعل حتى العدوان العسكري على شعوب بأكملها مفهوماً.

• @LoveLiberty

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق