الاثنين، 26 يناير 2015

هل أصبح الشرق الأوسط فارسيًّا؟!



هل أصبح الشرق الأوسط فارسيًّا؟!



شريف عبد العزيز

اليوم، ثمة مؤشرات متزايدة على أن النظام المشرقي الإقليمي، الذي ولد كأحد استحقاقات هزيمة الدولة العثمانية في الحرب الأولى وسيطرة الإمبرياليتين البريطانية والفرنسية، ما عاد قابلًا للاستمرار. 
وخرائط سايكس ـ بيكو القديمة آخذة في التغير بقوة، بعد أن توافقت القوى الإمبريالية الحديثة على ضرورة تصحيح أخطاء سايكس بيكو الأولى بأحداث كبيرة وجوهرية في المنطقة.

والبداية ليست مع العدوان الأمريكي للعراق كما يذهب الكثيرون، ولكن البداية كانت مع اللحظة المواكبة للصعود الإيراني الذي أعقب هذا العدوان وما أطلقه هذا الصعود من توتر طائفي في معظم أنحاء المشرق، وتشظَّتْ معه الهوية الدينية والوطنية لدول المشرق جميعًا.

والدرس الاستراتيجي الأهم في عالم السياسة والمصالح القومية، يرتكز في معرفة كيفية استخدام أدوات القوة الناعمة والقوة الخشنة التي تملكها الدول، وتوقيت وتفعيل هذه الأدوات، بحيث لا تضع السيف موضوع الندى ولا تضع الندى موضع السيف.

ففي أوقات التحول وإعادة رسم الخرائط، كالتي تمر بها المنطقة منذ العدوان الأمريكي على العراق في 2003، غالبًا ما تكون المساحات التي يتم فيها استثمار القوة الناعمة في حالة انهيار "المدن"، الاقتصاد، طبيعة الحياة اليومية، الإعلام، إلخ، مما يجعلها في هذه اللحظات قوة هشة لا ناعمة، في حين تكون العوامل الصلبة "القدرات العسكرية" هي المحدد الرئيس لماهية التحول وإلى ما يؤول، في هذه الأوقات، تكون المساحات ككائن تعرى من كل شيء حتى لم يعد سوى هيكله العظمي في عملية إعادة تشكيل قبل أن يكتسي مجددًا بكافة أشكال الحياة.

وهذا هو الملخص النهائي الجامع لسر التفوق الإيراني والتراجع الخليجي والتركي في الآونة الأخيرة، وها هي إيران تحكم قبضتها على أربع عواصم عربية؛ بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت، في حين تتدخل بنسب متفاوتة في الشأن الداخلي لكل دول المنطقة!!

وبمقارنة سريعة بين موازين القوة الإيرانية والعربية والتركية، نجد أن إيران ليست هي الطرف الأقوى عسكريًّا، ولكنها وبمنتهى الصراحة الأقوى إستراتيجيًّا وتكتيكيًّا، فعلى الرغم من أن إيران تمتلك القوة العسكرية الأكبر في الخليج، وهي القوة العسكرية الأولى من حيث التعداد في المنطقة متفوقة على تركيا ومصر، بيد أن الأسلحة التي تمتلكها قديمة نسبيًّا، في حين تمتلك تركيا و"إسرائيل" ودول الخليج أسلحة أكثر تطورًا منها، ولكن إيران تعتمد في بث نفوذها الإقليمي على القوى العسكرية غير المتوازية.
فقد أدركت طهران منذ البداية أهمية الأرض فعززت قوتها بعد الثورة الإيرانية، وحشدت أتباعها ومؤيديها من الطائفة الشيعية في أنحاء العالم، فكانت الحوزات الشيعية بقمّ وطهران مقرات لتصدير الثورة الإيرانية، وبينما كان الحوثيون وشيعة الخليج وأفغانستان وباكستان وأفريقيا يتدفقون على تلقي تعاليم الثورة الإيرانية، ثم تلقي التدريب في معسكرات حزب الله ومعسكرات سوريا، وكل ذلك صبّ على المدى الطويل في القوة الإيرانية وخدم مشاريع النفوذ والتغلغل بصورة أكبر من القوة العسكرية التقليدية.
تُعتبر القوى غير المتوازية العامود الفقري للدور الإيراني في المنطقة، بدءًا من جنوب العراق وحتى لبنان، بل وامتدادًا أيضًا إلى غرب أفغانستان، والحوثيين في اليمن، حيث تستثمر إيران في الأسلحة والذخائر "الصغيرة" التي تستخدمها الميليشيات والجماعات المسلحة، وتزود بها حلفاءها في المنطقة لبث نفوذها ومواجهة أعدائها بشكل غير مباشر في كثير من المواقف.


وعبر استخدام القوة الخشنة والاستثمار في الهيكل العظمي لبؤر التوتر استطاعت إيران بأموالها وأسلحتها وخبراتها العسكرية والأمنية والإلكترونية وميليشياتها العراقية واللبنانية؛ منع سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وفي استمرار المأساة السورية قتلًا وتهجيرًا وتمكينًا للماكينة الأمنية لنظام دمشق.

واستطاعت أيضًا عبر التمويل والتسليح التحكم في بوصلة الميليشيات الحوثية ودفع اليمن إلى هوّة الاستقطاب الطائفيّ والأخذ به نحو الانهيار، وهي أيضًا بالتحالف مع الأسد النافق، تمكين «حزب الله» اللبناني من زمام لبنان، وتجميد الرئاسة والحكومة والبرلمان، جاعلًا الجمهورية بأكملها رهينة لقرار خامنئي.

في استراتيجيتها البراجماتية لا تأنف طهران من التعامل مع من تعتبرهم خصومًا أيديولوجيين، من تنظيم «القاعدة» الذي كانت أراضيها ملاذًا آمنًا لبعض قياداته، إلى "إسرائيل" التي افتضح أمر صفقة سلاح معها أثناء حربها مع العراق والتي تتشارك معها تمسكها الموضوعي بنظام الأسد «الممانع»، وهي التي تدعم وتسلح وتموّل أحزابًا إسلامية «سنّية» وكردية «علمانية» أيضًا.


وعبر التعامل مع التنظيمات العسكرية غير الموازية تمكن النظام في طهران، طوعًا أو كرهًا، من جمع شعوب إيران خلفه، وفي نفس الوقت بالاعتماد على القوة الناعمة بالعلاقات الدبلوماسية المميزة مع بعض دول المنطقة مثل سلطنة عُمان، وبالعلاقات الاقتصادية القوية استفاد من ميزان تعاملاته المالية الهائل مع الإمارات، ولعب على الخلافات بين دول الخليج، وكذلك بين الدول العربية، كما استثمر في الصراع بين الروس والولايات المتحدة الأمريكية. من خلال هذه المنظومة غير المباشرة استطاعت إيران أن تصوغ رؤية سياسية وإستراتيجية أكثر واقعية وتأثيرًا من العرب والأتراك.

فتركيا مثلًا وعلى الرغم من تمتعها بمزايا كثيرة عن إيران، وتمتلك فعلًا معظم أدوات القوة الناعمة والخشنة، سواء من الناحية العسكرية والتقنية والاقتصادية والجغرافية والديمغرافية، فضلًا عن كونها عضوًا مؤسسًا في حلف الناتو، إلا إنها تعاني من تخبط خطير على مستوى الرؤية الإستراتيجية لمصالحها وأمنها القومي، ففي حين تعمل إيران على الاستثمار في الهيكل العظمي وتتبنى الدعم غير المباشر للقوة الخشنة، بدعم المليشيات والأذرع العسكرية المنتشرة في المنطقة طولًا وعرضًا، في هذا الحين تعمل تركيا على التركيز باستخدام القوة الناعمة، لافتقارها لخبرة تشغيل الكيانات غير الموازية في مناطق التوتر والتمدد.
حتى خبرتها الطويلة في محاربة حزب العمال الكردستاني لم تجن منها شيئًا، ونجاحها في حصار الحزب المشاغب لم تكن نتيجة عمل عسكري بقدر ما هو نتيجة إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية قامت بها حكومة أردوجان في المناطق الكردية.

ولو أردنا أن نضرب مثالًا للمقاربة بين الأتراك والإيرانيين في استخدام أدوات القوة لن نجد أفضل من كردستان العراق التي أصبحت بعد تفكك العراق بؤرة متقدمة للصراع على النفوذ لكلا البلدين، ففي الوقت الذي انهمك الأتراك في استخدام كل أدوات القوة الناعمة في كردستان فصاروا أكبر مستثمر اقتصادي، إلى جانب ذلك أسست تركيا مدارس وجامعات ومنابر إعلامية في كردستان العراق أكثر من أي دولة أخرى، غير أن تركيا لم تذهب بعيدًا في استثمارها لتصل إلى ترسيخ وتوطيد كردستان العراق عسكريًّا واستخباراتيًّا، فهذا خط أحمر بالنسبة لتركيا فيما يخص كردستان، وقد يزعزع مستقبلًا الوضع في جنوب شرق تركيا، لذلك امتنعت تركيا عن تسليح كردستان. وفي المقابل قامت إيران بعكس ذلك تمامًا، فهي وإن كانت ضد فكرة الاستقلال الكردي نظرًا لاحتوائها على أقلية كردية، إلا أنها قد دفعت بثقلها في دعم كردستان في المجالات العسكرية والاستخباراتية لمنافسة "إسرائيل"، وهو ما يعني علاقات أوثق بين الطرفين، وإن لم تكن بادية للعيان نظرًا لافتقادها العنصر الناعم والرمزي الذي هيمن على علاقات تركيا وكردستان.
وهذا ما فسر سرعة قيام إيران بقصف مواقع لداعش داخل الحدود العراقية عندما فكر التنظيم في الهجوم على المنطقة العازلة للنفوذ الإيراني العسكري بالعراق، ورغم رمزية القصف وبدائية الطائرات المستخدمة فيه إلا إنه كان ذا دلالة عميقة على تغيير النظام الإقليمي برمته، ومثّل اعترافًا دوليًّا ضمنيًّا بأحقية إيران في تحريك ذراعها العسكرية خارج حدودها للتدخل في دول الجوار بصورة مباشرة، إنقاذًا وإنفاذًا لمصالحها القومية العليا!!

أما العرب عامة ودول الخليج خاصة والتي تقف في قبالة الخصم الإيراني بصف ممزق، وخلافات داخلية وجانبية كثيرة فأزمتها أكبر وأخطر من أزمة الأتراك، فقد هيمنت عقلية الاعتماد على الثروة و”البترودولار” على هيكلة المؤسسات السياسية والدينية الأساسية في دول الخليج، حيث سمحت المليارات بأن تراقب وتتحكم في تحديد السياسات واتخاذ القرارات وصياغة مفهوم الأمن القومي، وهو الأمر الذي يجعلها اليوم رهينة لمدى قدرتها على تمويل تحالفاتها السياسية والاستراتيجية . فالعرب تعتمد بصورة كبيرة وأساسية على أمريكا في ورادات السلاح، وتقوم بتعزيز عتادها العسكري بشكل غير مسبوق في المنطقة، وربما في العالم، حيث تنفق جزءًا كبيرًا من ميزانيتها الثرية لجلب أحدث الأسلحة والذخائر بكميات كبيرة (130 مليار دولار سنويًّا).
فطبقًا لمعهد البحوث من أجل السلام العالمي، الموجود بستوكهولم في السويد، مثَّلت واردات الأسلحة إلى الخليج بين عامي 2008 و2012، 7٪ من تجارة السلاح العالمية، وكانت بالأساس معدات وأنظمة دفاع صاروخي.
وبشكل عام تتزايد صفقات السلاح الموجهة للخليج في الأعوام الأخيرة نظرًا للمخاوف من الدور الإيراني، حيث تُعَد الإمارات حاليًا رابع أكبر مستورد للسلاح في العالم، وجارتها السعودية خامس أكبر مستورد، بعد أن كانت في المرتبة الـ18 بين عامي 2004 و2008.

من المتوقع أن تتسلم السعودية خلال العام 2015، 154 طائرة إف 15 إس إيه من الولايات المتحدة، ودفعات إضافية من طائرة تايفون من بريطانيا، بالإضافة إلى ذلك، تسلمت السعودية بالفعل المئات من صواريخ كروز من طراز ستورم شادو من بريطانيا (بمدى يصل إلى 300 كيلومترًا)، وبدأت في التفاوض مع الولايات المتحدة، لأول مرة، لاستلام صواريخ AGM-84H والتي لا يملكها من حلفاء الولايات المتحدة سوى تركيا وكوريا الجنوبية. بدورها، تتفاوض الإمارات مع شركة لوكهيد مارتن الأمريكية المعروفة لشراء تقنيات دفاع صاروخي متطورة، مثل نظام "ترمنيال هاي ألتيتيود" البالغة تكلفته 7.6 مليار دولار.

ولكن كل هذا العتاد الحربي والسلاح المتقدم لم يفد شيئًا في تحقيق التوازن الاستراتيجي مع الإيرانيين، حيث يعاني العرب من غياب الخبرة العسكرية والموارد البشرية الكافية ليستطيع تحقيق فارق جوهري بذلك العتاد، كما يعتبر غياب التنسيق العسكري بين دوله نقطة ضعف واضحة مقارنة بالقوى العسكرية الأخرى بالمنطقة، وهو ما يعني أنه يحتاج إلى الاعتماد على قوى خارجية بشكل كبير لضمان توازن الكفة الإستراتيجية، وهو دور تقوم به الولايات المتحدة منذ عقود.

واليوم يحدث تقارب غير مسبوق بين أمريكا وإيران سيكون أكبر ضحاياه هم العرب أنفسهم وأهل السنّة خاصة منهم، فإيران قد أعلنت الجهاد الأكبر على العرب والمسلمين، ففي خطبته التحريضية عن انهيار السعودية المنتظر، تحدث السياسي المخضرم زكاني أمام البرلمان وأشار إلى ما سماه مرحلة “الجهاد الأكبر” لدى إيران. مشيرًا إلى نية إيران لإعداد وتصدير مشروعها ونموذجها من الثورة الإسلامية للمنطقة الأكبر، من أجل تحقيق ما يُفهم على أنه استقلال وتحرر سياسي واجتماعي وديني في إطار ثوابت الإسلام.
الجهاد الأكبر عند الإيرانيين لا يجب أن يفهم على أنه الحرب أو القتال، وإنما هو حملة أيديولوجية، من أجل إحداث تغيير بطيء وسلس لدى الآخرين، وحيث أشار "زكاني" إلى أن هذه المرحلة من الجهاد الأكبر "تتطلب سياسة خاصة ونهجًا حذرًا لأنها قد تؤدي إلى العديد من التداعيات"، مشيرًا إلى أن خطأ العرب الشنيع عندما آمنت بقناعة عمياء أن صوت المال سيكون أعلى في النهاية.
"زكاني " أمام البرلمان أفاض في شرح معنى الجهاد الأكبر التي ستدخلها إيران لتوسيع نفوذها ونموذجها بشكل إقليمي، ونصح البرلمان أن يحرص على دعم الحركات التي تعمل ضمن إطار الثورة الإيرانية حتى تتمكن من إنهاء الظلم ومساعدة المظلومين في الشرق الأوسط، قائلًا بمنتهى الوضوح: ستعمل إيران على أن تكون دولة قائدة وليست طاغية أو ديكتاتورًا للسياسات كما تفعل بعض دول الخليج.


إن الإقرار بتنامي النفوذ الإيراني وتمدده الكبير في أربع عواصم عربية هامة، وهشاشة الرؤية التركية والعربية في حماية مصالحهما القومية وأمنها الإقليمي، ليس تحيُّزًا لطرف على حساب آخر، فالتحيّزات والتفضيلات والانتماءات لا تغني عن الحقائق الموجودة على الأرض، إيران، وإن لم يعجب مشروعها الكثيرين، أبعد نظرًا من تركيا والعرب بشكل عام في سياساتهما بالشام، وأكثر واقعية، وأكثر إدراكًا لأهمية القوة الصلبة في المرحلة التاريخية الاستثنائية والتأسيسية التي تمر بها المنطقة حاليًا. والشرق الأوسط الذي نعرفه منذ زمن بعيد على وشك التحول إلى أكبر امتداد إيراني فارسي شهده التاريخ بكل عصوره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق