الخميس، 24 ديسمبر 2015

المطلوب من صعيد مصر


المطلوب من صعيد مصر  
 



نبيل الفولي

مصر من أوائل الدول العربية والإسلامية التي دخلت العصر الحديث بأخذها المبكر بكثير من النظم والأفكار العصرية الجديدة.

ففي مجال السياسة أسس محمد علي الكبير الدولة المصرية الحديثة وما ارتبط بها من جهاز بيروقراطي أوائل القرن التاسع عشر، وفي مجال العسكرية عرفت مصر في تلك الفترة أحد أوائل الجيوش العربية والإسلامية القائمة على النظام العسكري الحديث، كما نشطت الطباعة والصحافة فيها نشاطا واسعا منذ وقت مبكر، وكذلك افتتحت المدارس ومعاهد التعليم وفق النظام الحديث قبل حوالي قرنين من الزمان.

شارك الصعيد في أحداث مصر الكبرى في العصر الحديث، فكان له دوره في مقاومة الحملة الفرنسية، وفي الثورة العرابية 1919، وانتمى إليه أهم الشخصيات الفاعلة في مجموعة (الضباط الأحرار) التي دبرت ونفذت أحداث ثورة يوليو 1952، كما شارك في ثورة يناير
وقد كان لذلك تأثيره العميق على البنيان الاجتماعي المصري وعلى كثير من العادات والتقاليد المصرية الموروثة، حتى اختفت الأسرة الكبيرة الممتدة من أغلب أنحاء القطر المصري، وغلب ما يسمى بالأسرة النواة المكونة من أب وأم وأطفالهما فقط، وبالأولى اختفت في كثير من أنحاء مصر -خاصة المدن الكبيرة- الانتماءات القبلية، كما ضعف الانتماء إلى العائلات أو الفروع الصغيرة للقبائل التي تشكّل منها الشعب المصري طوال قرون.

غير أن أكثر هذه التغييرات الاجتماعية والثقافية قد ظهرت عميقة في القاهرة ومدن مصر الشمالية الكبرى أكثر من غيرها، وبقي الصعيد أقل تأثرا بهذا كله بدرجات متفاوتة من الشمال إلى الجنوب ومن الحضر إلى الريف ومن الأماكن السياحية الشهيرة إلى غيرها، مما أدى إلى احتفاظ الصعيد عموما بجانب كبير من تركيبته الاجتماعية والثقافية التقليدية.

وحين نراجع الخريطة الإدارية للدولة المصرية سنجد أن الوجه القبلي -من جنوب القاهرة وغربها إلى حدود السودان - يقع على نحو ثلثي مساحة الدولة، ويضم حوالي ثلث السكان، ويحتفظ بمعظم كنوز الحضارة الفرعونية القديمة مثل أهرامات الجيزة ومعابد الأقصر وأسوان وآثار دهشور.

ويتكون الوجه القبلي أو الصعيد -خاصة في محافظاته الوسطى والجنوبية- من مجموعات قبلية ضخمة ترجع إلى أصول عربية قدمت على فترات منذ الفتح الإسلامي، وأخرى بربرية جاءت إلى مصر خلال هجرات مغربية مشهورة، إضافة إلى سكان مصر الذين كانوا فيها أثناء الفتح الإسلامي ممن أسلم أكثرهم وذابوا في المسلمين، وأقلية نوبية لها ثقافتها ولغتها الخاصة إلا أنها تدين بالإسلام وتتكلم العربية، مع أقلية مسيحية تُعَد أحيانا الأكبر في أنحاء مصر بعد القاهرة.

وقد شارك الصعيد في أحداث مصر الكبرى في العصر الحديث، فكان له دوره في مقاومة الحملة الفرنسية، وفي الثورة العرابية 1919، وانتمى إليه أهم الشخصيات الفاعلة في مجموعة (الضباط الأحرار) التي دبرت ونفذت أحداث ثورة يوليو 1952، كما شارك ضمن خليط سكاني مصري ضخم في ثورة يناير 2011 التي أطاحت بـ حسني مبارك.

وفيما بعد الثورة الأخيرة كان سكان الصعيد خلال الانتخاب والاستفتاءات المتتابعة أحد أهم المرجحات لإفشال مخططات الدولة العميقة التي حاولت بوسائلها الناعمة -قبل انقلاب يوليو/تموز 2013- أن تستعيد سلطانها، لكن الموقف الشعبي كان هو المنتصر دائما، سواء في انتخابات مجلسي الشعب والشورى، أم الانتخابات الرئاسية، أم الاستفتاء على دستور الثورة، أم في التصدي لمماطلات المجلس العسكري الذي أدار البلاد عقب الإطاحة بمبارك وحتى انتخاب رئيس للبلاد.

كما شارك الشباب الثوري من محافظات الصعيد في الاعتصام بمنطقتي رابعة العدوية بالقاهرة والنهضة بالجيزة إبان انقلاب يوليو/تموز الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي. ومع أن أغلب ضحايا اقتحامات الجيش والشرطة لهذه الاعتصامات يوم 14 أغسطس/آب 2013 ينتمون إلى محافظات الوجه البحري والقاهرة، فإن التفاوت يرجع إلى أن محافظات الصعيد كان اعتصامها الأساسي في ميدان النهضة الذي سهلت جغرافيته اقتحامه وفضه بسرعة مع عدد أقل من الضحايا.

كما أن نسبة المشاركة في هذه الاعتصامات تأثرت كثيرا بالبعد الجغرافي عن القاهرة والقرب منها، فقدمت العاصمة -التي هي طيف سكاني كبير تعود أصوله القريبة إلى مختلف محافظات مصر- حوالي ثلث شهداء المجزرة في التاريخ المذكور.

والذي يدرس عن قرب أحوال محافظات الصعيد بعد انقلاب يوليو/تموز 2013 يجد أن الأزمة الاجتماعية الخطيرة التي خيمت على أنحاء مصر، وفرقت الأسر والعائلات بشكل غير مسبوق فيها، كانت في الصعيد أقل حدة مما هي في القاهرة والوجه البحري، وقد يرجع هذا إلى متانة الرابط العائلي هناك، والضعف النسبي القديم لحضور الدولة، وإلى الإهمال الذي اعتادته محافظات الصعيد من حكام القاهرة.

ولولا الدور الكبير الذي قام به إعلام الانقلاب -بالإضافة إلى جهود العائلات الصعيدية المنتمية للحزب الوطني الحاكم من عهد مبارك- في الترويج له، ما كان للانقلاب أنصار في الصعيد تقريبا.

من الملفات العاجلة التي يمكن تفعيلها بصورة منظمة من خلال محافظات الصعيد: الملف الحقوقي للمعتقلين، ونصيب الصعيد منهم لا يقل عن 25% (هذه نسبة تقديرية) من عددهم الذي يصل إلى أربعين ألف شخص، أي أن نصيب الصعيد منهم حوالي عشرة آلاف معتقل من مختلف المحافظات
إن دراسة الكتل الشعبية التي ساندت الانقلاب تؤكد تركزها في محافظات مثل القاهرة والجيزة والمنوفية والغربية، وضعفها نسبيا في السويس والفيوم والمنيا وسوهاج وأسوان وغيرها، مما يمكن إرجاعه بسهولة إلى تراكمات سياسية قديمة جعلت من بعض المحافظات مراكز راسخة للنظام العسكري وممثله السياسي (مثل الاتحاد الاشتراكي والحزب الوطني) على تتابع مراحله الزمنية منذ ثورة 1952.

كما أن هناك أجزاء من الدولة المصرية تتحالف باستمرار مع النظام من واقع المصالح المشتركة، فـ قرية بني عدي من أسيوط -إحدى محافظات الصعيد- بها أكثر من أربعمائة موظف كبير في سلك القضاء، وهو ما جعلها حليفا قويا للانقلاب برغم شهرة أهلها بالعلم والتدين!.

ومع أننا نبحث هنا عن وظيفة خاصة يمكن أن تقوم بها محافظات الصعيد في إعادة المسار الديمقراطي المصري ودفع الجيش إلى مغادرة الساحة السياسية والعودة إلى الوظيفة الأساسية له، فلابد أولا من تقرير بعض الحقائق المهمة في هذا الصدد، وأولها أن حسم الأمور في مصر يتعلق أولا بالقاهرة الكبرى التي تحوي المصالح الحيوية للدولة، ثم بعض المحافظات الأساسية التي تطل على قناة السويس وعلى شاطئ المتوسط.

ولسنا هنا بصدد رسم خطة حرب، إلا أن وجود يقظة ثورية وضغط مؤثر على النظام الحاكم في المناطق الحيوية والأساسية للدولة هو الذي يُناط به حسم الأمور لصالح المسار الذي خطته ثورة 25 يناير على مستوى الدولة عموما.

وهنا لن نفسر الصعيد على أنه مجرد رقعة جغرافية، بل هو انتماء كذلك، إذ أن مئات الآلاف من أبنائه يقيمون متنقلين بين القاهرة ومحافظاتهم الأصلية، من تجار دائمين ومؤقتين وطلاب وثوار هاربين من وجه الشرطة التي تتبعهم في بيوتهم ومناطق سكنهم منذ الانقلاب، ولا يخفى أن هؤلاء يمكن أن يكونوا شركاء مؤثرين في المسيرات الاحتجاجية أو مشروعات الإضرابات بالعاصمة، خاصة عند اتخاذ الحكومة قرارات جائرة بحق التجار والبائعين وغيرهم من الفئات التي تضرر أكثرها بالفشل الاقتصادي والقرارات المتخبطة للنظام.

وإذا كانت هذه إمكانية يملكها أبناء الصعيد للمشاركة في تحريك الموقف أولا وحسمه في مراحل تالية في مركز الحسم الأول، وهو القاهرة، فإن نقطة إنعاش الثورة -ومثلها نقطة انطلاقها الأول- لا يُشتَرط أن تكون العاصمة، وهذا ملاحظ على العموم في مسار الثورات، فهي تنطلق من هذه النقطة أو تلك، ثم تمتد شيئا فشيئا. إلا أن نقل الخبر وتغطية الحدث بكثافة وقوة هو الكفيل بتفعيل المناطق الأخرى خارج نطاق الاشتعال الأول للثورة.

وهنا ستبدو وظيفة الشباب الذي يسجل الأخبار ويوثقها ويبثها بكل وسيلة متاحة؛ ليست أقل مما يقوم به الآخرون في صناعة الحدث الثوري، بل إن الوظيفة الإعلامية هنا ستكون بمنزلة الرئة التي يتنفس منها هذا الحدث ويتمدد.

ويمكن أن تتحقق الحماية الأمنية لبث الخبر من داخل مصر من خلال مواقع وصفحات ينشئها المصريون المقيمون في خارج مصر من أهل الصعيد وغيره، ومن المسلمين والمسيحيين كذلك، فتتلقى خبر ما يجري في محافظات الصعيد من الداخل وتبثه من خلال صفحاتها الخاصة، وتتلقاه عنها مختلف القنوات والمحطات الإخبارية.

ومن الملفات العاجلة التي يمكن تفعيلها بصورة منظمة من خلال محافظات الصعيد: الملف الحقوقي للمعتقلين، ونصيب الصعيد منهم لا يقل عن 25% (هذه نسبة تقديرية) من عددهم الذي يصل إلى أربعين ألف شخص، أي أن نصيب الصعيد منهم حوالي عشرة آلاف معتقل من مختلف المحافظات، وتستطيع عائلات هؤلاء المعتقلين التواصل فيما بينها من خلال مواقع التواصل والقنوات الداعمة للشرعية والمهتمة بحقوق الإنسان، وتنظم ما تشاء من فعاليات وإجراءات للضغط على النظام للإفراج عن كل المعتقلين؛ خاصة أبناءهم الذين اعتُقلوا بدون جريمة ولا محاكمة عادلة.

لابد من نشاطات وحراك سياسي وثوري لأهل الصعيد -خاصة الشباب الذي لا ينتظر أكثر من محفز ومحرك- يتخذ أسلوب التصعيد المتدرج، ويتمدد في فراغات النظام الأمنية الكثيرة التي تركها في الصعيد لتركيزه على القاهرة والإسكندرية وسيناء
كذلك لابد من نشاطات وحراك سياسي وثوري لأهل الصعيد -خاصة الشباب الذي لا ينتظر أكثر من محفز ومحرك- يتخذ أسلوب التصعيد المتدرج، ويتمدد في فراغات النظام الأمنية الكثيرة التي تركها في الصعيد لتركيزه على القاهرة والإسكندرية وسيناء.

ولا يحتاج هذا في البداية أكثر من كسر حاجز الخوف، وتوظيف المناسبات الثورية، واستغلال الإجراءات التعسفية لقوات الأمن، وقد كان هذا متاحا بقوة في حادث مقتل المواطن طلعت شبيب بقسم شرطة الأقصر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فقد احتج أهالي قريته "العوامية" بقوة وواجهوا الشرطة بعنف، حتى تدخلت القيادات الأمنية الكبرى واعتذرت للأهالي ووعدت بمحاكمة المتهمين من رجال الشرطة، فكشفت عن مواطن ضعف في الجهاز الأمني برمته.

كما أن دعم الحراك الثوري في محافظات الصعيد المصري وغيرها بأفكار عملية يمكن أن تقام حوله حوارات بين الشباب بمختلف الوسائل، وأمامنا نماذج رائعة لأفكار شبابية تزيل عن الجماهير الإحساس باليأس والإحباط، منها: زيارة مقابر شهداء أحداث الثورة جماعيا ونشر ذلك إعلاميا، وتعليق صور الشهداء على الجدران في المدن والقرى مع شعارات تندد بالانقلاب وتطالب بحق الشهداء، وإرسال خطابات إلى عائلات الشهداء تذكرهم بحق أبنائهم وتقدم لهم اقتراحات عملية يمكن أن يقوموا بها، ومتابعة الأخبار الكاذبة التي يبثها الإعلام عن الصعيد -مثل إظهار أنه مؤيد كله للنظام أو أن الدولة بدأت مشاريعها الخدمية فيه- وفضحها بالأدلة القوية.

كل هذا وغيره كثير لا ينبغي أن ينسي ثوار الصعيد أنهم جزء من المشهد المصري الكبير، ونجاحهم في مسعاهم رهن بحسن التواصل والتنسيق مع بقية أجزاء الجسد الثوري في مصر، والفطن لا يعدم إلى غايته وسيلة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق