الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

امرأة نبيلة


امرأة نبيلة

 أحمد عمر


مريضٌ، عليلٌ، لا طاقة لي على فتح عينيّ المقفلتين.. فتحهما أشق عليّ من فتح أنطاكية أو فتح القسطنطينية. يؤلمني شهيقي، يوجعني زفيري، متح الهواء يكلفني مشقة وجهداً.أسمع صوت أنفاسي وهي تصرّ في القصبات.. الجبال الجامدة تمر من أمامي مرّ السحاب.. وزائرتي كأن بها حياءً، فليس تزور إلا في الظلام، لكن الزائرة الثانية شبه عارية، من أين جاءت؟ 
أبذل جهداً خارقاً في التقلب إلى الجهة اليمني لتخشب جهتي اليسرى، وقلبي باسط ذراعيه بالوصيد. طوت الحسناء سجادة الصلاة باحترام، كان نوري قد طواها مثلما تطوى ورقة الكتاب من أعلاها بمثلث صغير، علامةً.
قالت: سأعمل لك منقوع الأعشاب. من أين انبثقت هذه الحورية؟ وضعت لي صينية نظيفة لامعةً، وأنين المنقوع يتلوى بخاراً. شغلتْ جهاز التلفزيون، واختارتْ فيلماً كوميدياً للكوميديان شعبان وراحت تضحك.. حاولت شدّ اللحاف، قالت لي ممنوع.. حرارتك مرتفعة.
تعنّ على بالي قصيدة نزار قباني: أشعر بالبرد فغطيني، ضميني... قالت إنّ نوري سيعود ومعه الطبيب.
شعري يؤلمني، أحلامي لها أشواك وبراثن. تذكّرت عشرات الشهداء الذين قضوا في الثورة، بسبب نقص الأدوية أو الحرمان من التداوي، في العراء.. استطعت أن أشير إليها بسبابتي، بعد مشقة.
قالت مبتسمة: ستعيش. وأقبلت عليّ وقالت: حسناً، قُل: أشهد.. أن لا.. إله... إلا الله.. ثم رددت وراءها بعيوني تمتمة. وأنّ... محمداً.. رسول.... الله. لقنتني الشهادة بلكنتها التركية، ببطء، قطرة، قطرة، مثل الدواء قالت: إذا متّ فشهيداً.. وأمرتني بأن أشرب، لكن هيهات فأجفاني صدئة، وصدري خشخشة. 
بعد يومين، تحسنت. سألت نوري أن يساعدني في شكر سيبَل المجدلية.. أين سنجدها؟ قال: في شارع تقسيم تنتظر زبوناً ما. ساعتها بمائتي ليرة تركية..
اشتريت باقة ورد كبيرة. اتصل بها نوري، فوجدناها على الناصية بصدرها المكشوف، وتنورة الجلد الضيقة. قدمتُ لها الورد فشهقت فرحة، وقالت: عدت قوياً مثل الحصان. دعوتهما إلى العشاء فوق البوسفور، كنت قد اغتنيت. استأجرنا "تاكسي".
اختار نوري مائدة بجوار الماء، معظم الضيوف من الروم؛ ألمان وهولنديون وفرنسيون.. وتركي في الستين يقبل صديقته الأربعينية، ملء قلبه عن شوارده. مدّ النادل الأطعمة .
قدّمني نوري لها، وقال مفاخراً: خالي كاتب ومؤلف وقاص وروائي.. فوقع التعريف في نفسها وأحدث أثراً صاعقاً.
دعس نوري على زر فظهرت مقالات لي في صفحة الهاتف. نظرت إليها سيبل فاغرة الفم. وقصدت دورة المياه وعادت، وقد غسلت وجهها من الأصباغ، وغطّت صدرها المكشوف بوشاح أبيض أظهر جمال وجهها. كنت لا أزال عليلا.
وقفت فوق رؤوسنا فرقة موسيقية، عزفت أغاني مصرية مثل "مصطفى يا مصطفى"، و"العتبة قزاز والسلم نايلو نايلو"..
 فقدحت رئيس الفرقة قطعة نقدية من فئة العشرين ليرة، ثم انتقلت الفرقة بالكمنجة والأكورديون والدف إلى مائدة أوروبية، لتغني أغنية إيطالية.. 
قالت لي: كنت تشير بسبابتك فلقنتك الشهادة.. 
قلت: كنت بردان، وأشرت بسبابتي أن.... تضميني. 
فوجئت، كنت أصدّها، بل لا أنظر في وجهها، وجمت، انبجست دموعٌ على خديها، وقالت: لم أفهم إشارتك، سامحني، ظننتك تحتقرني، ثم أجهشت في البكاء. 
انتبه إليها الحضور من ترك وعجم وروم.. كرّرت: سامحني لم أفهم عليك.. فوقفت وفتحت ذراعي. دارت حول المائدة، ورمت نفسها في حضني، وأنا أربت على ظهرها. هرعت إلينا الفرقة الموسيقية، وهي تنشد زفّة العرس الشامي: صلوا على محمد.. الله ساوى.. دوز دوز.. ثم انتقلت بسرعةٍ إلى أغنية: وتمختري يا حلوة يا زينة...
التفّ حولنا الضيوف، وصفقوا لنا، جرت شقراء إلى الداخل، وأحضرت صحناً من الرز ونثرته علينا، ورقصت حولنا صبية هولندية بدينة. ونوري راقصها.
قالت دامعة: ظننت أنك تحتقرني.
اختلطت دموعنا: كيف وقد لقنتني الشهادة، وأنقذتني من النار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق