عن حكاية "الليبروجامية"
لا يُستبعد أن يكون صاحبه إنسانا عاديا، وليس من المشاهير، فكثيرا ما تأتي الحكمة على ألسنة أناس عاديين، ثم يتلقفها آخرون وتحقق الانتشار.
المصطلح في جوهره ودلالاته يبدو خليجيا، لكن واقع الحال أنه ليس كذلك، إذ ينتمي إلى الفضاء العربي برمته، وقد يشمل الكثير من الدول الأخرى؛ بخاصة الإسلامية، وربما شمل دولا أخرى، إذا استبعدنا الدلالة الدينية، واكتفينا بالدلالة السياسية.
الجزء الأول من المصطلح (الليبرو) يخصّ أولئك الذين يصنّفون أنفسهم ضمن الدائرة الليبرالية، أو العلمانية (بعضهم يحب المصطلح الأول، وبعضهم يفضل الثاني، فيما يحب آخرون الفصل بينهما). أما الجزء الثاني (الجامية)، فهو مصطلح معروف يتعلق بتيار سلفي (النسبة للشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله، وهو سعودي من أصل إثيوبي).
يبالغ الأخير في التشديد على طاعة ولاة الأمر، بما في ذلك تحريم انتقادهم في العلن. وفي حين يشترك مع الغالبية من التيار السلفي التقليدي في هذا البُعد، إلا أن تشديده عليه، واعتباره من مسائل العقيدة المهمة، هو الذي منحه هذه المكانة، ولا يبتعد عنه بالطبع ما يسمى بالتيار المدخلي (نسبة للشيخ ربيع المدخلي).
ما ذكّرنا به هو التطورات الاجتماعية في بعض الدول، وفي مقدمتها السعودية، وهي تطورات كانت على الدوام موضع خلاف بين الناس، وإن عارضها قطاع من المشايخ.
الدمج بين التيارين؛ على ما بينهما من تناقض سافر، جاء من هذا البعد المتعلق بطاعة ولاة الأمر، إذ تمت نسبة "الليبراليين" إياهم إلى هذا التيار تبعا لذلك، مع أنه لا يقدم تنظيرات خاصة في السياق، إذ يروّج ويطبق قوانين الطاعة من دون تنظير فكري، وإن قدم تبريرات سياسية في بعض الأحيان.
لهذا السبب، وسّعنا الإطار ليشمل دولا كثيرة، إذ أن كثيرا من المحسوبين على التيار الليبرالي أو العلماني، كانوا ولا يزالون خدما لأنظمة لا صلة لها بهذه النظريات. وهي في جوهرها أنظمة شمولية، حتى لو تبنى بعضها شيئا من مفردات الليبرالية مثل الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية أو البلدية التي لا تتجاوز اللعبة "الديكورية" التي تبقي كل شيء على حاله.
نفتح قوسا كي نشير إلى أن التناقض السافر بين التيارين يتمثل في البعد الاجتماعي، إذ يتبنى التيار "الجامي" أقصى درجات التشدد في التعاطي مع القضايا الاجتماعية، وفي مقدمتها قضية المرأة والأخلاقيات المجتمعية الأخرى، بينما يفعل الليبراليون العكس تماما.
ولكن ما الذي ذكّرنا بهذا المصطلح راهنا؟
ما ذكّرنا به هو التطورات الاجتماعية في بعض الدول، وفي مقدمتها السعودية، وهي تطورات كانت على الدوام موضع خلاف بين الناس، وإن عارضها قطاع من المشايخ.
اللافت بالطبع أن أهم مساندي المواقف القديمة هم "الجامية" إن جاز التعبير، وإن وقف بجانبهم أو صمت آخرون، لم يكونوا يرون في تلك القضايا أولويات تستحق الاهتمام، رغم أنهم لم يكونوا يرونها مسائل اعتقادية أو فقهية محسومة (ليس كلها بالطبع).
تتبدى فضيحة التيار الجامي في صمته حتى على الانقلاب على قضايا كان يعتبرها من أولوياته
هكذا يدين صاحب القرار للتيار الديني الذي سانده دائما بمقولات الطاعة، وينتصر للتيار الليبرالي الذي منحه الطاعة، وعارضه في القضايا الاجتماعية، مع العلم أن تلك المعارضة لم تكن نوعا من البطولة، إذا أنها كانت مطلوبة أصلا، من أجل تهيئة المجتمع للتغيرات القادمة، والتي كانت مطلوبة بعد الهجمة الأمريكية إثر هجمات سبتمبر، ثم تراجعت من جديد بعد "الربيع العربي"، وحاجة السلطة إلى رجال الدين لشيطنته من جهة أخرى.
ما ينبغي قوله هو أنه؛ لا التيار الجامي، ولا الآخر "الليبرالي" المزيف، يعبران عن ضمير المجتمعات العربية والإسلامية
لا خلاف على أن قسما كبيرا من المجتمع يرحب ببعض تلك التطورات الجديدة، بخاصة ما لم يكن محسوم "الحرمة" من جانب غالبية المشايخ، لكن السؤال هو: هل هذا ما يريده المجتمع راهنا، وهل تلك أولويته الأهم؟
الحق أن المجتمعات المذكورة لا تختلف في شيء عن بقية المجتمعات العربية والإسلامية، إذ أن أولويتها ليست السينما والترفيه وما شابه من قضايا، لأن من يريد ذلك سيجده بسهولة في زمن الفضاءات المفتوحة.
إن أولويتها هي الإصلاح السياسي والمشاركة في القرار والحريات وحقوق الإنسان، وبجانب ذلك الإصلاح الاقتصادي الذي لا يمكن أن يتحقق من دون إصلاح سياسي، وهنا تتبدى فضيحة التيار الليبرالي، أكثر من التيار "الجامي"، إذ أنه يتجاهل عمليا أهم مقولاته في الحرية والتعددية، ويكتفي بالانفتاح الاجتماعي، بينما تتبدى فضيحة التيار الجامي في صمته حتى على الانقلاب على قضايا كان يعتبرها من أولوياته (التيار المدخلي حكاية لوحده، ويحتاج وقفة أخرى، فهو يرتّب الفتوى بحسب كل حالة وفق هوى قادته، مع أنه سيدفع الثمن لاحقا حين تنتهي الحاجة إليه).
ما ينبغي قوله هو أنه؛ لا التيار الجامي، ولا الآخر "الليبرالي" المزيف، يعبران عن ضمير المجتمعات العربية والإسلامية، ولو أجريت أي انتخابات حرة، لكان نصيبهما محدودا، ما يعني أن مطالب المجتمعات لن تتغير، وإن اختفت بسبب الخوف من القمع، وبسبب أجواء إقليمية غير مساندة، مع أن ذلك ليس قدرا، بدليل ما جرى في السودان والجزائر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق