غزّة وليست إسرائيل محور الكون
مع ترامب وإدارته، كما مع بايدن وبلينكن والإدارة الراحلة، إسرائيل هي المحور، أو المعيار الحاكم لكلّ ما يدور في منطقة الشرق، تلك هي العقيدة الأميركية التي لا تتغيّر أبداً. ما الجديد إذن؟
لا جديد سوى أن التماهي العربي مع هذه العقيدة انتقل من كونه وسيلة للتقرّب إلى واشنطن إلى غاية تُطلب في ذاتها.
صار عقيدة لدى العرب أيضًا تحكم حركتهم، بحيث صار خصوم واشنطن وتل أبيب هم في الوقت ذاته خصوم النظام العربي، وصار معيار الحكم على فرص بقاء نظام حاكم، قديم أو مستجد، هو مدى ملاءمته للعقيدة الأميركية ودرجة الرضا الإسرائيلي به، ليس وفقاً للمعادلة القديمة التي راجت في مصر قبل سقوط نظام حسني مبارك، وأطلقها سكرتيره السابق للمعلومات، مصطفى الفقي، بل بمعادلة جديدة تماماً، يؤمن معها العرب الرسميون بأنّ مصالحهم المشتركة مع الكيان الصهيوني أهم من مصالحهم فيما بينهم، وبذلك أصبحت الصداقات والعداوات العربية العربية تتأسّس على العلاقة مع إسرائيل، صديقها صديق وعدوها عدو.
على هامش، أو في قلب، الصفقة التي توشك على الاكتمال، أو ربما كانت قد اكتملت بالفعل، تلك الصفقة التي مضت إليها غزّة رافعة الرأس، موفورة الكرامة، يطلّ الرئيس الأميركي جو بايدن الذي أخذ على عاتقه ترويج أكاذيب العدوان الإسرائيلي، وأنتوني بلينكن وزير خارجيته وصانع هذه الأكاذيب، ليقولا للشعوب العربية إنّ كلّ شيء يدور بإرادة إسرائيل، ومقاييسها ومحدّداتها، في الحرب والسلم، وإن دور واشنطن الأساس حماية هذه المعايير، والقضاء على كلّ ما من شأنه تعطيلها، فالعالم ينقسم إلى أعداء وأصدقاء.
العدو هو كلّ من يقف ضدّ إسرائيل، والصديق هو من يتقرّب إليها، ينطبق ذلك أوّل ما ينطبق على الفلسطينيين، فالفلسطيني الجيّد من وجهة النظر، أو العقيدة، الأميركية، هو الفلسطيني الذي لا يضايق إسرائيل ولا يغضبها أو يتخذها عدوًا، بينما الفلسطيني الشرير، وبالضرورة العربي الشرير، هو كلّ من يقاوم أطماعها في الشرق الأوسط أو حتى يعارضها. يقول بلينكن في مؤتمره الصحافي أمس: "لا أحد يمكنه أن يفرض على إسرائيل دولة فلسطينية تقودها حماس أو أي منظمة أخرى متطرفة".
إسرائيل، إذن، هي الجهة الوحيدة المخولة بتحديد طبيعة وشكل ومساحة وحدود الدولة الفلسطينية، وكأنها باتت ذلك الكيان الإمبراطوري المُهيمن على المنطقة، بينما فلسطين إحدى ولاياتها أو مقاطعاتها، على غرار رام الله التي تحارب الفلسطينيين المقاومين بشراسة تتجاوز الوحشية الصهيونية، وما ينطبق على غزّة وفلسطين يسري على الدول العربية، لا يمكن لأحد أن يفرض على إسرائيل السكوت على نظام عربي يعاديها أو يعارضها، تلك هي عقيدة بلينكن التي يلحّ عليها ويكرّرها حتى باتت نصًا مقدّسًا لا يستطيع أحد إنكاره أو معارضته أو التمرّد عليه.
"لا يجب أن يؤثر الاتفاق الجديد على أمن إسرائيل أو مكانتها".
يمضي بلينكن في ترديد نصوص السلام الإسرائيلي، بينما هتافات تتعالى في القاعة تتهمه بالكذب وارتكاب جرائم حرب ضدّ الشعب الفلسطيني.
يصرّ على أنّ الاتفاق قرار إسرائيلي خالص، لا دور للصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية فيه، في محاولة لتكريس وهم الانتصار الإسرائيلي المطلق، الذي بحث عنه نتنياهو 16 شهراً في غزّة ولم يحصل عليه، لأن غزّة قرّرت ألا تمنحه إياه، بقيت صامدة وصابرة تنزف دمها الطاهر من دون أن تنحني، تتألم لكنها لا تخجل من جرحها ولا تتسوّل به.
لذلك كله، ولمليون سبب آخر، ننحني جميعًا اعتذاراً لغزّة واعتزازاً بها، بعد أن فعلتها، وحدها، مرّة أخرى وقدّمت الدليل على أنه لا يزال هناك شرف عربي يقيم هناك في غزّة، التي نظلمها كما قال عنها محمود درويش
"نظلمها حين نحولها إلى أسطورة، لأننا سنكرهها حين نكتشف أنها ليست أكثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم. وحين نتساءل: ما الذي جعلها أسطورة؟ سنحطم كل مرايانا ونبكي لو كانت فينا كرامة، أو نلعنها لو رفضنا أن نثور على أنفسنا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق