ترك برس
في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وبينما كانت الإمبراطورية العثمانية تنهار، وتركيا الحديثة تشقّ طريقها من رماد الهزيمة، كانت اليمن تخوض معركة من نوع آخر: معركة الحفاظ على استقلالها وموقعها في عالم جديد تهيمن عليه القوى الاستعمارية. وسط هذا المشهد المضطرب، برز الإمام يحيى حميد الدين كلاعبٍ حذر وذكي، حافظ على تحالفه مع بقايا الدولة العثمانية، وفتح أبواب بلاده للنخب العسكرية والإدارية التركية. ولوهلة نادرة، وجدت الجمهورية التركية الناشئة نفسها أمام عرضٍ غير مسبوق: اليمن، بكل ثقلها الجغرافي والديني، تعرض الانضمام إلى أنقرة، وترفع العلم التركي فوق مدنها الكبرى.
وفي مقال له على موقع "اندبندت التركية"، سلط الكاتب التركي محمد مظلوم تشليك، الضوء على تاريخ العلاقة بين اليمن والدولة العثمانية ومن بعدها بالجمهورية التركية.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
رغم أنه يتحدى إسرائيل اليوم، إلا أن اليمن قضى عقودًا تحت ظلال الحروب بالوكالة بين السعودية وإيران، عانى خلالها من أيام مؤلمة.
العثمانيون واليمن
عندما دخل السلطان سليم الأول القاهرة عام 1517 بجيشه، كانت اليمن تتخبط في صراعات داخلية. لكن أحد الحكام المحليين، الأمير إسكندر، خطب في الناس باسم السلطان العثماني معلنًا ولاءه لإسطنبول، وهكذا دخلت المنطقة سياسيًا ضمن نطاق الدولة العلية.
أحمر اليمن وأطماع البرتغاليين
كان اللون الأحمر منذ العصور القديمة رمزًا للقوة. ونظرًا لصعوبة إنتاجه، فقد كان يُعد ثمينًا كقيمة الذهب. وكان يُستخدم في الأقمشة، والأخشاب، وغيرها، ويُنتج في اليمن بأجود وأجمل صورة ممكنة. لدرجة أن البرتغاليين شنّوا هجمات على اليمن فقط من أجل الحصول على هذه الأصباغ الحمراء.
اليمن مدرسة لرجال الدولة العثمانيين
في فترة وجيزة، نُظمت إدارة اليمن وفق نموذج “البيلرباي”، وتحولت إلى ما يشبه "مدرسة الصدارة العظمى".
تحوّل اليمن إلى ولاية عثمانية
أخيرًا، في عام 1872، تم تهميش سلطة الأئمة، وحُوِّل اليمن إلى ولاية عثمانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ما أنهى أي شكل من أشكال الحكم الذاتي في المنطقة.
محمود نديم باشا واليمن
وُلد محمود نديم باشا في دمشق عام 1864، وكان عثمانيًا من أصول كردية. تلقى تعليمه في المدرسة الرشدية في طرابلس الشام، وبدأ حياته العملية بوظائف صغيرة في سلك الإدارة. أول مهمة جادة أُوكلت إليه كانت في "درنة"، أحد أبرز السناجق العثمانية في شمال إفريقيا، لكنه لم يتمكن من الذهاب إليها بسبب مشاكل صحية، فعُيّن بدلًا من ذلك في جدة. عندما جاء عثمان باشا إلى الجزيرة العربية لحل الأزمات القائمة، تعرّف على محمود نديم.
عودة إلى اليمن
في عام 1904، ومع اندلاع تمرد الزيديين ضد الحكومة المركزية، طلب السلطان عبد الحميد الثاني تعيين موظفين أكفاء في المنطقة.
هزائم واحتلال وصداقة جديدة
وصل الجيش العثماني إلى صنعاء بقيادة أحمد عزت باشا في حال يرثى لها؛ معظم الجنود كانوا من الأطفال، أُرسلوا دون إمدادات، فتلقوا هزائم ثقيلة أمام المتمردين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، وقوع حامية كاملة مكونة من نحو 5,000 جندي في يد المتمردين يوم 18 مارس 1905. وفي مايو من نفس العام، دخلت وحدات تابعة للجيش البريطاني مدينة صنعاء بشكل مفاجئ. عقب ذلك مباشرة، أقال السلطان عبد الحميد الوالي توفيق باشا، إذ بات تأثير البريطانيين في المنطقة خطرًا لا يمكن التنبؤ به. في مايو، تحرّك الجيش العثماني بقيادة فوزي باشا لاستعادة صنعاء والقضاء على الإمام يحيى. وكان يُنظر إلى التدخل البريطاني كقنبلة موقوتة؛ فدخولهم الجزيرة العربية قد يعني استحالة إخراجهم لاحقًا. لذا قررت الدولة العثمانية إرسال وفد إلى الإمام يحيى لتفادي مزيد من إراقة الدماء. وكان من ضمن هذا الوفد محمود نديم، وهكذا بدأت صداقة طويلة الأمد بينه وبين الإمام يحيى.
تصعيد عسكري من السلطان عبد الحميد
ورغم أن الدولة كانت تتابع المفاوضات، فإن السلطان عبد الحميد أمر ـ بخلاف المعتاد ـ بحل المشكلة عسكريًا. تقدمت القوات العثمانية حتى وصلت إلى صنعاء. وكانت الحصيلة دامية للطرفين: اليمنيين والعثمانيين. وبالإضافة إلى ذلك، أعلنت الدولة أن الإمام يحيى متمرّد ويجب القبض عليه.
إدراك متأخر للأزمة
من خلال ما رواه محمود نديم في مذكراته، يمكننا أن نفهم أن سبب الفشل في اليمن كان يعود إلى النظرة السطحية التي كان يتعامل بها رجال الدولة العثمانيون مع المسألة اليمنية، وعجزهم عن فهم أبعاد الأزمة الهيكلية فيها. فقد كان الإمام يحيى، الذي انسحب بقواته إلى الشمال، مدركًا تمامًا أن ظروف الطبيعة والجغرافيا في تلك المناطق تصبّ في صالحه. وبالفعل، بعد أن استولى العثمانيون بسهولة على المراكز الحضرية، تحوّلت هذه المناطق إلى ما يشبه السجن لهم، وكلما حاولوا الخروج منها، تكبدوا هزائم قاسية. وفي النهاية، اضطرت الدولة العثمانية إلى الإقرار بوجود الإمام يحيى والاعتراف بدوره الفعلي في المنطقة.
بيروقراطي يشهد على انفصال اليمن
وقد تم تجاوز فوضى عام 1905 نسبيًا عبر تنازلات متبادلة من الطرفين. لكن إعلان المشروطية عام 1908، ثم خلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909، قلب الموازين مرة أخرى في اليمن. كان الإمام يحيى ومحمود نديم يتابعان هذه التطورات بقلق؛ لأن الإمام، رغم خصومته أحيانًا مع الدولة العثمانية، لم يكن يرغب بانسحابها المفاجئ من اليمن. كان يدرك تمامًا أن هذا الفراغ سيُغري قوى استعمارية مثل بريطانيا وإيطاليا للتدخل السريع واحتلال المنطقة. وفعلًا، في ظل هذا الاضطراب، تمرد أحد زعماء القبائل الأقوياء، السيد محمد الإدريسي، بدعم واضح من إيطاليا. ورغم التوترات، فإن الإمام يحيى سيصبح حليفًا قويًا للعثمانيين عبر "اتفاق دعان"، الذي رسّخ هذا التحالف لفترة طويلة. ولا شك أن المهندس الأساسي لهذه الصداقة والتحالف كان محمود نديم.
مرحلة البناء ثم الانهيار
بعد توقيع هذا الاتفاق، تولّى محمود نديم منصب والي اليمن، وبدأ بإعمار المنطقة، وعمل على معالجة الأزمات الهيكلية التي كانت تعاني منها، مما أسهم في تقريب اليمن من إسطنبول وتعزيز ارتباطه بالدولة العثمانية. لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، سقط اليمن مجددًا في دوامة الفوضى، وتمرّد السيّد محمد الإدريسي مرة أخرى بدعم مباشر من البريطانيين. وفي خضمّ هذا التوتر، رفض الإمام يحيى الاصطفاف إلى جانب البريطانيين، وظل متمسكًا بالاتفاق الذي أبرمه مع الدولة العثمانية، وهو ما كان إلى حد كبير ثمرة جهود محمود نديم باشا وإخلاصه في تثبيت أواصر العلاقة بين الطرفين.
ولاء بني مروان وتحوّل اليمن إلى جبهة صامدة
بل إن قبيلة بني مروان، المعروفة بأنها أكثر قبائل اليمن شراسةً في القتال، استجابت لنداء الخلافة بتشجيع من الإمام يحيى، وأرسلت جنودها إلى الجبهة للقتال إلى جانب العثمانيين. فاليمن، الذي كان قبل الحرب العالمية يمثل الحلقة الأضعف في الدولة العثمانية، تحوّل إلى قوة تقف بجانب الدولة في أحلك أوقاتها، بفضل جهود رجل دولة واحد يتمتع بالكفاءة والحنكة. وعندما عجز البريطانيون عن تحقيق أهدافهم في اليمن، توجهوا نحو تحالف جديد، ونجحوا في إبرام اتفاق مع شريف مكة، الحسين. حتى توقيع هدنة مودروس، حافظت الدولة العثمانية على وجودها في اليمن، ولم تنجح أيّ تمرّدات أو هجمات معادية في تحقيق نصر حاسم. وبمعنى آخر، كان اليمن من الجبهات القليلة التي لم تُهزم فيها الدولة العثمانية.
انسحاب مشرّف وتدبير حكيم
بعد الهدنة، حرص محمود نديم على ألا تقع الذخائر العثمانية في يد البريطانيين، فسلّمها إلى الإمام يحيى، الأمر الذي منع سيطرة البريطانيين الكاملة على المنطقة رغم انسحاب العثمانيين. ولم يكتف الإمام يحيى بالحصول على الأسلحة فقط، بل أبقى محمود نديم باشا إلى جانبه. فقد أدرك أن وجود رجل دولة بهذه الكفاءة لا يقل أهمية عن الأسلحة، ولذلك، وبالرغم من أن ذلك مخالف لشروط هدنة مودروس، فقد حرص على بقاء الوالي العثماني في اليمن لمواصلة عمله. وعيّن الإمام يحيى، محمود نديم باشا في منصب رئيس وزراء اليمن، كما أسند مناصب عليا إلى بعض المسؤولين العثمانيين الآخرين، مثل وزير الخارجية.
نواة مقاومة واستمرار الولاء لتركيا
ومنذ تلك اللحظة، بدأ الإمام يحيى مقاومةً ضد البريطانيين، شبيهة بحرب التحرير في الأناضول، وكان يتابع عن كثب تطورات النضال الذي تقوده حكومة أنقرة. وبعد تأسيس الجمعية الوطنية الكبرى في تركيا (TBMM)، لم يرغب الإمام في قطع علاقاته الروحية أو السياسية مع تركيا، بل ورفع الأعلام التركية في اليمن، وأعرب عن رغبته في أن تبقى الجمهورية التركية قائمة، وأن يبقى اليمن تحت رايتها أو حمايتها. حتى إنه طالب بأن تُضم مناطق الحديدة وتعز وزبيد إلى تركيا رسميًا، بينما تخضع بقية المناطق لحمايتها.
موقف أنقرة وتقدير الواقع
أول الأمر، درس مصطفى كمال أتاتورك مسألة ربط اليمن بأنقرة، إلا أنه أدرك أن جمهورية تركيا، المحاصرة في شريط صغير من الأناضول والمستنزفة اقتصاديًا، لن تستطيع تقديم شيء حقيقي لليمن، كما أن بريطانيا لن تسمح بذلك. لذلك، رفض "اليمن الذي قُدّم له على طبق من ذهب"، كما عبّر الإمام، لكنه في الوقت نفسه، أمر بأن تقوم أنقرة بواجبها تجاه استقلال اليمن. ومنذ ذلك الحين، عمل محمود نديم كممثّل لأنقرة لدى الإمام يحيى، واستمر في خدمته لضمان عدم انقطاع العلاقة بين اليمن وتركيا. وسُمح كذلك لآلاف الجنود والأطباء والبيروقراطيين العثمانيين الذين رغبوا بالبقاء في اليمن بأن يعملوا إلى جانب الإمام.
دعوة لتمثيل اليمن في تركيا ومهمة جديدة
رغم كل هذه التطورات، ظل محمود نديم يطالب بوجود نائب عن اليمن في البرلمان التركي، بل طُرح اسم عبد الحالق حقي بك كمرشح محتمل لذلك. لكن بسبب انشغال أنقرة بمشاكل أكثر إلحاحًا، آثرت تجاهل هذه المقترحات. ومع ذلك، لم يغادر محمود نديم اليمن، بل واصل خدمته تحت إمرة الإمام يحيى، حرصًا على الحفاظ على الرابط التركي-اليمني. وفي عام 1926، عاد الوالي السابق إلى إسطنبول، لكنه أُرسل هذه المرة في مهمة دبلوماسية إلى الدولة السعودية الناشئة، ليعبّر بذلك عن موقف تركيا المؤيد لاستقلال الدول العربية في المنطقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق