في عشق البلاد

دخل العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزّة الشهر الحادي والعشرين... هل سمعت عن استغاثة من فلسطيني أو فلسطينية تطلب الهجرة خارج الوطن؟ هل شاهدت تكدّساً للمحاصَرين بالقصف والموت والجوع عند الحدود باحثين عن منفذٍ يفرّون منه؟ لم يحدُث أن سعى الشعب الفلسطيني، الموضوع تحت سكين الاحتلال، إلى الخروج، على الرغم من العروض التي كانت تنهال عليه يوميّاً، كما القنابل والمسيّرات من الكيان الصهيوني، ومن ترامب، تتيح له الانعتاق من الموت بأيسر السبل، وهي العروض التي داسها الشعب بأقدامه، إدراكاً بأن ما يصوّرونه له انعتاقاً ونجاةً هو انسلاخ من الوطن واقتلاع من البلاد..
البلاد تلك المفردة المفعمة بسحر الإيقاع وعمق المعنى حين تسمعها من فلسطيني مغترب، حين يكلمك عن وطنه، فحين تسأل فلسطينيّاً من عرب الداخل عن وجهته في السفر، ويقول لك إلى البلاد أو من البلاد، فهذا يعني من فلسطين أو إليها، سواء كان مثقفاً مبدعاً أو مبدعاً عاديّاً، فهي البلاد ودونها لا بلاد، وهي الأرض ودونها الفراغ، والعودة حتمية وإن بدت المسافات بعيدة، أو كما يصيغ محمود درويش هذه العلاقة بين الفلسطيني والبلاد بالقول شعراً
"أنا الأرض.. والأرض أنتِ..
خديجة لا تغلقي الباب...
سنطردهم من إناء الزهور..
وحبل الغسيل...
سنطردهم من هواء الجليل".
الأمر نفسه تجده في علاقة كل مواطن عربي بأرضه، وهو ليس حكراً على العرب فقط، بل هو شعور ملازم لكل الشعوب المنتمية لبلدانها الضاربة بجذورها في عمق التاريخ والجغرافيا، وهو ما ظهر خلال الاثني عشر يوماً من الحرب بين إيران والكيان الصهيوني، إذ خاضت الأمة الإيرانية القتال ضد العدوان الصهيوني بجيشها وشعبها، الذي استمسك بالبقاء على أرضه في"بلاده"، ولم يفكّر في الرحيل أو الهرب أو السفر المؤقت حتى تنتهي المعركة، فيما اندفعت مجموعاتٌ هائلةٌ من المستعمرين الصهاينة نحو الهروب عبر كل منفذ متاح، برًاً إلى طابا المصرية، بعشرات الآلاف، أو بحراً عبر القوارب تنقلهم إلى قبرص ودول جنوب المتوسط.
هي"البلاد" إذن، تلك الكلمة التي تفصل بين المواطن الأصلي في الوطن الأصيل والمستوطن أو المستعمر في جغرافيا مسروقة ومغتصبة، الأول على استعداد لأن يدفع حياته ثمناً للبقاء على أرضه، والثاني على استعداد لأن يبيع الأرض ثمناً للحياة في أي أرض. هو الفرق بين مفهوم المكان عند صاحب البيت والمفهوم نفسه عند اللص.
صاحب البلاد ليس عدوانيّاً ولا قاتلاً، وإن حمل السلاح وقتل به من يحاول اختطاف وطنه، بينما اللص المستوطن كتلة من الكراهية والغلّ والرغبة المستمرّة في الاعتداء والقرصنة والخطف، وهو ما يتحقق في الشخصية الإسرائيلية، حكّاماً ومحكومين، حيث تنتفي الفوارق بين نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وأي مستوطن صهيوني ينقضّ على منزل لفلسطيني أو مزرعة أو قطعة أرض.
هي سيكولوجيا الاستباحة والاغتصاب المغلفة بنصوص تلمودية فاسدة ومزوّرة ومكتوبة بمداد من الدم والحقد.
وهذا بالضبط تاريخ الوجود الصهيوني على أرض فلسطين منذ هجمت عليها هذه العصابات في بداية القرن الماضي، إذ في البدء لم يكن ثمّة جيش إسرائيلي، بل مجموعات من المدنيين المستعمرين هجموا على البلاد وافترسوها وطردوا أهلها، واستولوا على البيوت والمزارع، بحيث صار كل شبرٍ على أرض فلسطين مغتصباً ومسروقاً بقوة الإجرام، وقوة التواطؤ السياسي، المتخفّي في شعارات الباحثين عن شهادات الاستنارة الممهورة بالختم الصهيوني.
وفي طبقات الوعي المخفية عند كل إسرائيلي أن كل مستوطنة إسرائيلية هي قرية فلسطينية منتزعة، وكل مسكنٍ لإسرائيلي هو بيت فلسطيني مسروق، وكل مدني صهيوني هو محاربٌ أكثر وحشيةً وشراسةً ضد الحق وضد العدل وضد المنطق، مهما حاول الذين يريدون منّا أن نتجرّع الأوهام السامة عنوة، حين يصوّرون المسألة بحثاً عن السلام بين وطنين طبيعيين وشعبين أصيلين، أو حين يروّجون لنا أن قاتلاً عنصرياً منحازاً للظلم أبداً يمكن أن يكون حكماً عادلاً بين المعتدي والمعتدى عليه، أو يجري التعاطي معه باعتباره ولي أمر الشرق الأوسط والعالم، أو رسول سلام ومحبة، رغم أنه يعترف بالكذب والخداع والتضليل، ويتباهى بالقتل والبطش والتدمير، ثم يعتبر ذلك كله من ضرورات السلام والوئام.
هذا شخصٌ لا يعرف معنى"الأوطان"، ولا يدرك جوهر"البلاد"، فهو التاجر المهاجر الذي ولد ونما في أرض مغتصبة من سكانها الأصليين.
ومن المنطقي للغاية ألا يجد غرابةً في أن يعرض على الإنسان الفلسطيني في غزّة الانسلاخ من وجوده، والذهاب إلى جنّة اصطناعية مجفّفة.
أما غير المعقول فعلاً أن يسلك عربٌ مع هذا الوغد باعتباره مدير العالم وحاكمه وحكيمه، تماماً كما يعتبره صهاينة رسولاً من الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق