الأحد، 29 يونيو 2025

هجرة العرب من الشرق الأوسط

هجرة العرب من الشرق الأوسط

وائل قنديل

ينتحر العرب الرسميون سياسيًاً إذا استسلموا لفكرة احتلاف الرؤى وتعارض الإرادات بين رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب، كما ينتحر المحلّلون السياسيون أخلاقيًاً ومعرفيًاً حين يناضلون من أجل ترويج أن ترامب يمكن أن يفرض على الكيان الصهيوني معادلاتٍ ترضي العرب، والفلسطينيين بالطبع. 

افتراض أن ترامب يمكن أن يكون صانع سلام، أو وسيطًاً بين ضدّين، هو بحد ذاته نوع الخداع، إذ قبل الحرب الثنائية على إيران وبعدها، تتراكم يوما بعد يوم شواهد الامتزاج الكامل بين أهداف واشنطن وغايات تل أبيب، لفرض السيطرة الإسرائيلية على المنطقة، والتصرّف في الشرق الأوسط بوصفه قطعة أرض خالية، مملوكة لنتنياهو، وقد حان الوقت لرسم خرائطها وتأطير حدودها. 

وكما قال دونالد ترامب، بعد فوزه برئاسة الولايات المتحدة، مرّة ثانية "لنجعل أميركا عظيمة مجدّدًا"، 'يردد نتنياهو العبارة ذاتها "لنجعل الشرق الأوسط عظيماً مرّة أخرى". 

وبالطبع، لن يكون هذا الشرق الأوسط العظيم كذلك إلا وفقًاً للتصوّر الصهيوني، الذي يتحرّك على الأرض بيقين كامل أنه لم يعد ثمة مشروع عربي في هذه المنطقة، ولم يتبق سوى مشروعين: الإيراني، الذي تلقّى ضربة أميركية هي الأعنف في تاريخه. والثاني هو المشروع الصهيوني المؤسّس على فكرة دينية يعتنقها ترامب بتعصّبٍ يفوق تعصّب اليمين الصهيوني لها.

ترامب الذي أعلن بغضب أنه لن يتسامح مع الذين يريدون محاكمة نتنياهو داخلياً، لأنه في نظره "بطل الحرب" لا يمكن أن يكون رجل سلام، حتى لو كان سلام القاذفات الخارقة للتحصينات، أو سلام التريليونات العربية، هو فقط محاربٌ من أجل إسرائيل فوق الجميع، هنا في الشرق الأوسط، كما أن أميركا فوق الجميع هناك في العالم كله. 

وفي الحالتين، ليس أمام العرب سوى تمويل هذين الحلمين، أو بالأحرى الحلم الواحد، إن أرادوا البقاء في المنطقة، تلك هي العقيدة الأميركية الخاصة بالشرق الأوسط، تتخذ شكلاً ناعماً وهادئاً مع الإدارات الديمقراطية، فيما تعبر عن نفسها بوقاحة مع مهووسين بالصهيونية الدينية، كما مع ترامب، وإدارات جمهورية سبقت. 

حتى هنري كيسنجر وزير خارجية أميركا في سبعينيات القرن الماضي ومخترع مشروع "السلام الصهيوني" لم يكن رجل سلام، كما روّجه رائد مسيرة التطبيع العربي أنور السادات، بل كان محارباً من أجل المشروع الصهيوني، بشهادة السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل، مارتن أنديك، الذي شغل منصب المبعوث الخاص للرئيس أوباما للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية من يوليو/ تموز 2013 إلى يونيو/ حزيران 2014. ... 

يكشف إنديك في حوار مع صحيفة جيروزاليم بوست عن كتابه الصادر 2021 "سيد اللعبة" إنه بعد أن فحص آلاف الوثائق والأوراق الخاصة بمسيرة عمل كيسنجر في الخارجية، اكتشف أن الأخير لم يكن داعية للسلام أو وسيطًا ساعيًا له، بل كان، قبل ذلك وبعده، صهيونيّاً مخلصاً لإسرائيل، قضيته الأساسية تثبيت أوضاع الشرق الأوسط، تحت الهيمنة الأميركية، وبما يحقق المصلحة الإسرائيلية. 

يقول إنديك "نظر كيسنجر إلى السلام بتشكك كبير، من واقع تجربته الخاصة وخبرته في دراسة التاريخ، حيث توصل إلى الاعتقاد أن السعي إلى تحقيق السلام يمكن أن يزعزع استقرار النظام في المنطقة، وهكذا بالنسبة له ، كان السلام مشكلة وليس حلاً". ويضيف إن استراتيجيته للمفاوضات كانت تقوم على مبدأ "الأرض مقابل الوقت"، وليست "الأرض مقابل السلام"، من أجل إنهاك العرب، في مفاوضاتٍ لا تؤدّي إلى شيء، سوى إتاحة الوقت لإسرائيل لتقليل عزلتها وزيادة قوتها.

كانت مهمة كيسنجر المقدّسة إخراج مصر، بشكل كامل ونهائي، من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي. وترامب هو النسخة الأميركية الصهيونية الوقحة من هنري كيسنجر، مع فارق وحيد، أن سبعينات القرن العشرين كانت لا تزال تحتفظ بملامح مشروع قومي عربي يتأسّس على قاعدة الكفاح من أجل التخلص من المشروع الصهيوني في المنطقة، 

أما عرب عشرينات القرن الحادي والعشرين فبلا مشروع، وكأنهم هاجروا من الشرق الأوسط، أو أنهم صاروا زيوتاً لتروس ماكينة المشروع الصهيوني، وهم في كامل سعادتهم!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق