الأربعاء، 11 يونيو 2025

الفقر الذي يلتهم الوطن

 الفقر الذي يلتهم الوطن


سيلين ساري

حين يتحوّل الخبز إلى حُلم في وطنٍ كان يُقال عنه يومًا "أم الدنيا"، تصبح الكرامة رهينة في طوابير الذل، والنفَس يُستدان من صندوق النقد الدولي، والرغيف يُشترى بالدَّين. هذه ليست نبوءة، بل مشهد يومي في مصر؛ التي أنجبت محمود عباس العقاد، وسيد درويش، وأحمد عرابي، والشيخ كشك. مصر التي تُهان اليوم على يدّ من لا يسمع، ولا يرى، ولا يخجل.

عندما أعلن البنك الدولي أنّ خطّ الفقر العالمي يبدأ من 6.8 دولارات في اليوم، أي ما يعادل قرابة 320 جنيهًا مصريًّا، برزت أمامنا حقيقة صادمة: الغالبية العظمى من الشعب المصري يعيشون تحت هذا الخطّ القاسي، بل انحدروا إلى ما دونه بخطوط مؤلمة، تنزف معها آدميتهم وكرامتهم.

تحوّلت أبسط متطلّبات الحياة إلى رفاهية بعيدة المنال، وصار شراء كرتونة بيض قرارًا استراتيجيًّا للعائلة، وأصبح الحليب حلمًا في حقائب الأطفال، ودواء المرضى أضغاث أحلام.

في وطننا، ومن كثرة أكاذيب النظام الحاكم، باتت الأكاذيب تتساقط كما تتساقط أوراق التوت، فتكشف العورات. فكلّما صرخ نظام عبد الفتاح السيسي بانتصاراته الوهمية، أصدرت المنظمات الدولية تقارير تُسقط تلك الادّعاءات وتكشف زيفها.

الوطن لا يُبنى بالمباني الشاهقة، بل ببناء الإنسان. وإذا هُدم الإنسان، سقطت كلّ الأوهام

وحين أعلن السيسي في استعراض فجّ أنّ الحدّ الأدنى للأجور هو 6000 جنيه شهريًّا، أي أقل من خط الفقر العالمي، فضح تقرير البنك الدولي المأساة؛ شعب يُعزَل عن الحقيقة في جُبّ من الخرافات، تُنسج لإيهامه بأنه يعيش "عصر الإنجازات".

لكن أي إنجازات تلك التي لا تنعكس في وجوه الناس ولا تدخل في بطونهم؟ وما جدوى الأبراج والكباري إذا كانت البطون خاوية، والقلوب مكسورة، والعقول مُعتقلة؟

الوطن لا يُبنى بالمباني الشاهقة، بل ببناء الإنسان. وإذا هُدم الإنسان، سقطت كلّ الأوهام.

الحقيقة أوضح من أن تُخفى؛ وجوه الناس في الشوارع تحكي ما لا تقوله نشرات الأخبار. الجوع، الإحباط، التهجير القسري من الحلم والأرض... هذا هو الواقع. فالمصريون اليوم يعيشون أسوأ حال على مرّ تاريخهم.

نحن أمام تكريس مُمنهج للفقر، وتواطؤ رسمي ضدّ المواطن، وإصرار فجّ على خنق الفقراء بحبل الغلاء والخذلان. كما أنّ ثلثي الشعب المصري تقريباً يرزحون تحت خطّ الفقر، بينما تستعرض الآلة الإعلامية الرسمية "إنجازات غير مسبوقة". وأيّ إنجاز أعظم من بيع الموانئ، والتفريط في الأراضي، ورهن مقدّرات الوطن مقابل قروض لا نجني منها إلا التضخم، ولا نحصد سوى الانهيار؟

 لم يعُد الفقر مجرّد رقم، بل وحش يلتهم البيوت، يُطفئ دفء العائلات، ويدفع الشباب إلى طوابير الهجرة أو أقبية السجون

لقد توقفت الدولة عن إعلان نسب الفقر منذ سنوات، وكأنّ الصمت يُخفي الحقيقة، أو كأنّ الجوعى سيبتلعون كذبة "الازدهار"، وكرامتهم تُسحق بين سندان الغلاء ومطرقة القمع. لكن الأرقام لا تموت، والحقيقة لا تُدفن.

منظمات دولية، تقارير مستقلة، وأصوات الناس في الأسواق، كلّها تؤكّد أنّ الفقر لم يعُد مجرّد رقم، بل وحش يلتهم البيوت، يُطفئ دفء العائلات، ويدفع الشباب إلى طوابير الهجرة أو أقبية السجون.

تزداد الهوّة بين طبقة ضئيلة تستأثر بالثروة والسلطة، وبين الملايين الذين تتآكل أحلامهم كلّ صباح. لا عدالة في توزيع الموارد، ولا كرامة في العيش، بل معاناة تلبس وجه الوطن، وتتحدّث بلسان كلّ مصري مسحوق بين سطوة الحاجة وخذلان الدولة.

أما المشروعات العملاقة التي يتغنّى بها النظام؟ فهي سراب في صحراء، بُنيت على أنقاض ميزانيات التعليم والصحة والدعم. تُدار كألعاب مهرجانات: بلا شفافية، بلا رقابة، بلا عائد، سوى المزيد من الدين وتسليم الوطن للمجهول.

في كلّ حجر يُرصف في العاصمة الإدارية، يُنتزع رغيف من فم فقير، وتُغلق مدرسة، ويتآكل مستشفى. هذه ليست تنمية، بل قشرة زائفة تُخفي جسدًا نازفًا.

مصر اليوم لا تقف فقط على حافة الإفلاس، بل تتأرجّح على شفا انفجار. أزمة الثقة بين الحاكم والمحكوم لم تعُد أزمة إعلام أو وعي، بل أزمة حياة، وواقع صارخ لا يحتاج إلى تحليل، بل إلى تغيير جذري.

هذه ليست تنمية، بل قشرة زائفة تُخفي جسدًا نازفًا

أيها المصري، لا تخدعك الأضواء البراقة في العاصمة الإدارية، فهي قناع واهٍ على وجهٍ يئن من الجوع. لا تصدّق من يبيعك الوهم، فالحقيقة في رغيفك، في مدرسة ابنك، في دوائك المفقود.

أن تنظر في عيون أم تبكي لعدم قدرتها على إطعام أبنائها، أصدق من كلّ نشرة أخبار، وأبلغ من ألف خطاب رسمي.

سيأتي يوم يُحاسب فيه التاريخ كلّ من جوّعوا الناس، وباعوا الأرض، ووأدوا الأمل قبل أن يولد. وسيُكتب في كتب الأجيال القادمة أنّ شعبًا صبر طويلًا... حتى صرخ. وما من قوّة، مهما بلغ بطشها، تستطيع أن تُخرس صوت الجوعى حين يصرخون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق