خواطر صعلوك
قل خيراً... أو اخرس!
تخيل عزيزي القارئ!
أنك رجل ثري، ثم قررت أن تشارك في بناء مستشفى، بمبلغ محترم، وبدلاً من أن تسمع «جزاك الله خيراً» تسمع «والله مسخرة! مسوي روحه مؤمن عشان يطلع اسمه في الجريدة!» أو «لو كان صادقاً كان تبرع بالسر»، أو التحليل الاقتصادي الدقيق: «هذا المبلغ يساوي واحد على مئة من ثروته... لو كان صادقا كان تبرع بنصف ثروته!»
أو تخيل عزيزي القارئ!
أنك موظف في إحدى الإدارات المليئة بالقيل والقال، ثم صمت تطوُّعاً يوماً، فيصلك كلام من هنا وهناك من المعلقين الدائمين «صام عشان يضبط الكوليسترول!» أو «يا معود شفته لقيته عابس... لو ما يصوم أحسن، هذا مو صايم بروح طيبة»!
يروي لنا الإمام البخاري، في الصحيح، وكذلك الإمام مسلم، هذا الأثر الذي يقول «عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قالَ: لما أُمِرْنَا بالصَّدَقَةِ كُنَّا نتحَاملُ، قالَ فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ بنِصْفِ صَاعٍ، وَجَاءَ إنْسَانٌ بشيءٍ أَكْثَرَ منه، فَقالَ المُنَافِقُونَ: إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن صَدَقَةِ هذا، وَما فَعَلَ هذا الآخَرُ إلَّا رِيَاءً» متفق عليه.
هذا الأثر الذي أخبر به الصحابي أبومسعود، عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، يوضح لنا أنواعاً من البشر الذين لا يعجبهم العجب، ولا الصيام في رجب، ولا التنفل في شعبان، ولا التصدق في رمضان، ولا الذهاب للعمرة ولا الحج، والمنتقدين لكل شيء، ولكل شخص، ولكل فعل... فقط يراقبون الناس، ويطلقون الأحكام على نوايا الناس وأفعالهم.
هؤلاء النفر –ورثَة أولئك المنافقين بامتياز– هم موضوعنا اليوم.
فهؤلاء المعلقون لا يعلقون فقط على أمور الدين وجعلها للدنيا، بل كذلك يعلقون على أمور الدنيا وجعلها في الدين، فإذا أنعم الله عليك وارتديتَ ثوباً جديداً في العيد أو في غيره، يتحولون من فورهم إلى خبراء الموضة والأخلاق ويقولون «هذا الثوب يكفي لسد جوع عائلة»!، واذا اشتريت سيارة جديدة يقولون «يرسل لنا رسائل بالواتسآب عن أهل غزة ويشتري سيارة جديدة... لماذا لا يساعدهم؟!»
إن هؤلاء الذين يتفحصون كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس، يمكن أن نطلق عليهم «خبراء التكيّة»، فحتى لو قُدر عليهم أن يكونوا فقراء فسوف يراقبون كمية الأرز واللحم في «صواني التكيّة» الخيرية، ويعيبون أصحابها قائلين «هذه تكيّة تعيسة! وين اللحم؟ شكله المانح صار بخيل هذه السنة، بس يبي الشهرة»!
ثم يتحولون من خبراء تكية إلى محققي الديوانيّة ومحللين إستراتيجيين لأحاديث وملابس وسيارات وأكل وشرب وضحك وبكاء، كل من حولهم «ليش ما يضحك؟ عنده هم؟ ولا قلة أدب؟»، «هالساعة تقليد! ليش ما جاب أصلية!».
ثم يتحولون في سياقات أخرى إلى مفتّشي أسواق، وفي سياقات أخرى إلى نقّاد نوايا وفي منصة «إكس» يتحولون إلى موزعين لصكوك الوطنية!
والسؤال العظيم هو ماذا قدَّم هؤلاء النفر لأنفسهم أو لدينهم أو لوطنهم أو لمجتمعهم غير هذا «التفتيش» والطعن في كل عمل وقول حولهم؟!
الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وضع القانون الذهبي الذي يكسر ظهور هؤلاء جميعاً؛ حيث قال «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ».
كلمة خير.. أو صمت طاهر.
لا مجال لخيار ثالث: لا مراقبة، لا تجسس، لا اتهام للنوايا، لا تنقيص لأعمال الآخرين.
فبدلًا من تضييع الوقت في اتهام الناس وحساب حسناتهم ونواياهم:
اسكت... ربما يكون صمتك عبادة أو صدقة.
اشغل نفسك... ربما تجد عملاً نافعاً، أو تعلماً مفيداً، أو عبادة خالصة.
ابحث عن عيوبك... فهي ما يهمك يوم القيامة، لا عيوب أبي عقيل، ولا جارك في مشرف، ولا المتبرع في بيان.
وإن استطعت أن تقول كلمة خير تشجع بها محسناً، أو تنصح بها مبتعداً برفق... فهذا هو المطلوب، أما أن تكون «كاميرا مراقبة» متنقلة تنفث سمومها... فهذا داء المنافقين الأولين!
فكما أنقذ أبو عقيل، سمعته في التاريخ بتصدقه (ولو بنصف صاع)، فأنقذ سمعتك في الدنيا والآخرة... بالسكوت أو بالكلمة الطيبة. قبل أن يعلق عليك من هم من طينتك نفسها...
وكل ما لا يُرادُ به وجه الله... يضمحلُّ، وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق