الثلاثاء، 12 مارس 2013

لا قرار ولا ضبطية

لا قرار ولا ضبطية


على الهاتف سألنى الصحفي الشاب: ما رأيك في قرار منح الضبطية القضائية للمواطنين المصريين، وألا ترى فيه تمهيدا لتشكيل ميليشيات إسلامية لتصفية المعارضين؟
فوجئت بالسؤال فقلت له: هل اطلعت على القرار وعرفت مضمونه، فكان رده أن ذلك لم يحدث، وإنما هو ينفذ توجيها كلفه به رئيس التحرير طالبه فيه باستطلاع آراء المثقفين بهذا الخصوص.
حينئذ قلت إنه لا يوجد قرار أصلا وانما نحن بصدد بيان صادر عن مكتب النائب العام.
 ثم إنه ليس صحيحا أن المواطنين أعطوا سلطة الضبطية القضائية، سكت صاحبنا لحظة ولم يرد، فأضفت أن الضبطية القضائية تخول الجهة المعنية حق تفتيش الشخص أو احتجازه لحين تسليمه إلى النيابة، ولا يستطيع وزير العدل أن يمنحها لأي أحد، ولكن ذلك مشروط بأمرين؛ أحدهما أن يوكل ذلك إلى هيئة حكومية عامة وليس للأفراد، ثم أن يكون تمتعها بسلطة الضبطية مما يقتضيه أداؤها لواجبها كما هو الحاصل في حالة الشرطة والجيش ورجال الجمارك.
لما طال سكوت صاحبنا شرحت له مضمون البيان الذي لم يقرأه وكيف أنه حث مأموري الضبط القضائي على القيام بما عليهم إزاء مثيري الشغب الذين يمارسون التخريب، كما أنه نبه المواطنين على ممارسة حقهم الذي كفله لهم قانون الإجراءات الجنائية، إذا ما وجدوا شخصا متلبسا بارتكاب جريمة، ودعاهم إلى تسليمه إلى الشرطة فيما تطلق عليه الصياغة القانونية مصطلح «الاستيقاف».
وحين أنهيت كلامي سمعت الصحفى الشاب وهو يقول بصوت خفيض كأنه غير مصدق لما قلت: هل تقصد أنه لا يوجد قرار ولا توجد ضبطية قضائية؟ وعندما رددت بالإيجاب اعتذر عن إزعاجي ثم وضع سماعة الهاتف في هدوء.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أتلقى فيها اتصالا من صحفي شاب لم يقرأ موضوعه، ولكنه اعتمد على تلقين من رئيسه.
كما انها لم تكن المرة الأولى التي أتلقى فيها ذلك النوع من الأسئلة المغلوطة والتحريضية؛ ذلك أن السؤال انطلق من صحة الادعاء بأن هناك قرارا من شأنه فتح الباب لتأسيس ميليشات إسلامية، وهي الصياغة التي تضع من يوجه اليه السؤال على الأرضية الغلط منذ اللحظة الأولى.
 ولم يكن ذلك كل شيء؛ لأن ما أثار دهشتي أن ما تحدث به صاحبنا في اتصاله الهاتفي معي في السابعة مساء الاثنين، وجدته الموضوع الأساسي للحوارات التليفزيونية التي جرت بعد ذلك بساعتين في أغلب القنوات، إذ دارت تلك الحوارات حول النقطتين اللتين أثارهما سؤال الصحفي الشاب، صدور قرار منح سلطة الضبطية القضائية للمواطنين، ثم الميليشيات الإسلامية التي ستتشكل بناء عليه، ولم تتوقف دهشتي حين طالعت أغلب الصحف «المستقلة» التي صدرت في اليوم التالي (صباح أمس الثلاثاء 12/3)، حتى بدا وكأن لوثة أصابت الجميع. إذ حشدت الصحف أعدادا من القانونيين والحقوقيين والمعارضين السياسيين وأقحمت إحدى الصحف عددا من خبراء علم النفس والاجتماع، واشترك الجميع في الصياح والنواح وهم ينددون بحكاية الضبطية القضائية ويروعون الناس من المصير الأسود الذي سيحل بالبلاد في ظل اجتياح الميليشيات الإسلامية المرتقبة.
حين وضعت تلك المشاهد جنبا إلى جنب، تداعى أمامى سيل من الأسئلة منها ما يلي: هل يمكن أن تكون تلك مجرد مصادفة، أن يشوه بيان مكتب النائب العام ويعاد تركيبه بذات المواصفات بسرعة مدهشة لإثارة أكبر قدر من السخط والنفور؟
وهل يمكن أن يكون الاتفاق منعقدا بتلك الدرجة بين تعليمات رؤساء التحرير وبين بعض المثقفين والخبراء وبين مقدمي البرامج التليفزيونية وضيوفها؟
واذا كان اتفاق هؤلاء على قلب الصورة وتسميم الأجواء قد انكشف بسرعة هذه المرة، فما هي يا ترى المرات الأخرى التي تم فيها التواطؤ المماثل ولم ينكشف أمره في حينه؟
إننا إذا طالعنا الصورة من منظور أوسع سنلاحظ أن الأبواق التي شاركت في عملية التسميم الأخيرة هي ذاتها التي احتفت بإضراب بعض رجال الشرطة عن أعمالهم، وهي التي شجعت جماعات الألتراس والبلاك بلوك واعتبرت عمليات التخريب وحصار البورصة والبنك المركزى والهجوم على مقر الاتحادية أعمالا ثورية، وهي ذاتها التي ما برحت تستفز الجيش وتستدعيه للانقلاب على السلطة، وقد قرأنا لبعضهم أمس توقعات وردية لما يمكن أن يحدث في مصر بعد وقوع ذلك الانقلاب السعيد. وهي خلفية تفسر لنا لماذا فزعت تلك المنابر من احتمال استنفار المجتمع ودعوة ناسه إلى التخلي عن السلبية وتسليم المتلبسين بارتكاب الجرائم إلى مأموري الضبط القضائي، كما يحدث في أي مجتمع حي ومتحضر.
لا تسألني من يكون هؤلاء؛ لأن الأسماء معلنة والوجوه مرئية والأصوات تملأ الأفق وتصم الآذان، ولا تسألني أيضا لحساب من يعملون، لأنني لا أشك في أنك تعرف ما الذي يمكن أن يحدث في البلد اذا تحقق لهم ولمن هم وراءهم ما يريدون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق