الأربعاء، 12 فبراير 2014

مقامة الاستبداد

مقامة الاستبداد

أحمد بن راشد بن سعيّد

حدّث سهم بن كنانة، قال:
كنت في بيتي أشاهد «الجزيرة»، وفي يدي طبق من «حريرة»، في ليلة من ليالي الشتاءْ، التي يطيب فيها الحساءْ، فهالني ما رأيت على الشاشة، حتى صرتُ أهيم كالفراشة، وآلمتني مشاهد الذبحْ، حتى كدت أن أيئسَ من الفتحْ، ولم أستمتعْ بحسائي، وتكدَّر ما بقي من مسائي، فنصحتني زوجتي بالخروجْ، والتفكرِ في سورة البروجْ، وانبعثتُ وما أدري أين أذهب، وما راعني إلا صديقٌ يدعوني إلى مجلسٍ للخطابة، وملعبٍ للطابة، مع ثلةٍ من الأخيارْ، يتناقشون في الأخبارْ، فلبيت دعوته، ولبست جُبّته، وانطلقنا إلى القومْ، وما كان عليَّ في الخروج لومْ، ولما أخذت بينهم مكاني، أطلقتُ بالتذمرِ لساني، وطفقت ألعن الاستبدادْ، وأستنهض الهمم لمحاربة الفسادْ، وأفضيت بسرِّي، وبُحتُ بما جال في صدري، غير آبهٍ بواشْ، ولا خائفٍ من أوباشْ، وتراءت لي «الجزيرة»،
وألحّت عليَّ مشاهدُها المريرة، فأنحيت باللومِ على الصمتْ
 وقلت: هو والله رديفُ الأمتْ، ونقيضُ السمتْ، إذا ساد الديارَ أشرارُها، وسيق إلى السجنِ أحرارُها، وسُفكت دماءُ الصبايا، وقُدِّم السِّفْلةُ والبغايا، وجهر ذو لحيةٍ بالنفاقْ، وتحوّل «الشيوخُ» إلى «رفاقْ»، فلا عذرَ لمن طوى كشحا، وربما كان الصمتُ قبحا.
قال سهم بن كنانة: وقطع حديثي ضيفٌ دخل المجلس، فسلّم وقعد في الصدر، ومعه طفل صغير، وكنت أعرفه من قديم، لكن أنسانيه طولُ الزمنْ، وتعاقبُ المحنْ، فلما تفرّست في سحنتِه، وقلّبت النظرَ في صلعتِه، عرفت أنه أبو نصر العزاز، فاعتنقته بشدة، واحتضنته بمودة، ولما أخذ بيننا مكانَه، شحذ بالحجةِ سنانَه، ورسم بالروعةِ بيانَه، فقال: كأنكم كنتم تتحدثون عن الاستبدادْ، وما جره من ويلاتٍ على العبادْ.
 قلنا: نعم.
 قال: فوالله ما نُكبت الأمة بمثلِه، وما خُنقت إلا بحبلِه.
 قال رجل من القوم: ماذا صنع غيرَ قتل الكرامة، وتحويل الإنسان إلى نعامة.
 قال: الاستبدادُ شجرةٌ تُورِثُ خبَثا، لكنها لا تنمو عبثا، 
قلنا: كيف؟
قال: لكل شاةٍ ضرعْ، ولكل نباتٍ فرعْ، والاستبداد يُولد من رحم الرزايا، ويرضعُ من لبن البغايا، ويستشري بالفسادْ، حتى يدين له الناس باستعبادْ، ولو قلّبتَ النظرَ في أحوال الأممْ، لوجدته حوّل طاقاتِها إلى رِمَمْ، بل قتل في وجدانها الإبداعْ، فأصبحت كالسلعةِ التي لا تُباعْ.
قال سهم بن كنانة: فوجدت عند أبي نصر بُغيتي، 
وقلت: لعله يقضي نَهمتي، فسألته: وما صفاتُ الاستبدادْ، بيض الله وجهك يوم المعادْ؟
قال: لقد سألت عن عظيمْ، ولكني به عليمْ، خذ قلماً وسجل عبارة، كلُّ نارٍ مبدؤها شرارة، ولا بد للمستبدِّ من صورة، تحوّله إلى أسطورة، وتضفي عليه التبجيلْ، وتدعو له بالعمر الطويلْ، وتقرنه بالأنبياءْ، وتجعل حياته خارج طبيعة الأشياءْ، بل ربما جعلته مُنزلاً من السماءْ، لا يُمسُّ بالنقدِ ولو تلميحا، ولا يُذكر إلا تسبيحا، أتعلمون لماذا كان الاستبدادُ أعظمَ بلية، وأسوأ من لُقيا المنية، لأنه يحتقر الرعيّة، ويتخذها مطية، ويصادر حقها، ويستعذب رقَّها، ويهمّش فكرها، ثم لا ينتظر إلا شكرَها. والأدهى والأمر، أن المستبدَّ يضفي على الديار اسمَهْ، ويرفع فوق حصونِها رسمَهْ، فمن خانه خان البلادْ، ومن ثار عليه أظهر في الأرض الفسادْ، هكذا كذَّبوا عبر العصورْ، وهكذا قلّبوا لك الأمور.
قال سهم بن كنانة: فلما بلغ أبو نصر هذا الحد، سألته: وماذا عن الحاشية، التي تسوق الناس كالماشية؟
ابتسم وقال: لا وصفَ أروع من وصفِك، ولا قصفَ أوقع من قصفِك، ما عليَّ من ملامْ، لو اختصرت لك الكلامْ، إن وراء كلِّ مستبدٍّ عمامة، تنسج للورى أوهامَه، وتزيّن له آثامَه، فتقول عن الصحو: غمامة، وتسمّي الحسن: دمامة، وتجعل الحقَّ فضلا، وتقلبُ الظلمَ عدلا، ولا يعدم طاغية مفتيا، يكون لأهوائه مبديا، ولأوامره ملبيا، فهو كالسبحة في يد زنديقْ، أو كالسجادة يحملها بطريقْ، كما لا يعدم بين حاشيته بوقا، يكون لترّهاته سوقا، ولكلِّ مستبدٍّ زبانية، تسقيه ما يشتهي من الآنية، لا صادقة العهد ولا بانية، وربما كان منها القوادُ والزانية، والأدهى ما يفعله العسكرْ، الذين يقلبون المعروف إلى منكرْ.
 قال رجل في المجلس: كيف؟
قال: هم شراذمُ من الفُسّاقْ، معروفون بالارتزاقْ، يربيهم المستبدُّ على النفاقْ، ويغنيهم من إملاقْ، فيصبحون بلا أخلاقْ، لا يعبؤون بمشاعر الناسْ، وليس لديهم ذرةُ إحساسْ، فإذا فاض الكيلْ، وطمّ السيلْ، واحتدم القهرْ، واضطرم الفقرْ، وانتفضت الرعيةُ على الجلادْ، واجهها بهؤلاء الأوغادْ، فلا تسلْ عن بحر الدمْ، ولا عمّن قُتل وكمْ، تلك والله مصيبة الطغيانْ، التي لم يُعرف مثلُها عبر الأزمانْ.
قال سهم بن كنانة: وتأملت ما تفعله الجيوشْ، وهي تستميت في حفظ العروشْ، فسألت أبا نصر: أهؤلاء عسكرٌ أم وحوشْ؟
ابتسم وقال: إنهم يعتقدون أنهم سيفُه، وأن ساكن الديار ضيفُه، فهم يدافعون عن عرشِه، وكأن البلد في كرشِه، وهو في حقيقته فردٌ بلا قوة، لكنه يستقوي بذوي الحظوة، المتمتعين بالسطوة، فتراهم حوله جِثيّا، وإن بلغوا من العمر عِتيّا، يغدقُ على أحدِهم في الليل والنهارْ، ويُقْطعه من الأرض ما يشاء ويختارْ، فيظل يأكل أكل الحوتْ، وربما استوزره الطاغية حتى يموتْ، والمحزن أن الناسَ تلزم الصمتْ، حتى يفترسَها الكبتْ، قلت: كيف؟ 
قال: يكذب المستبد فيقول إن الصمتَ فضيلة، والنقدَ رذيلة، والاحتجاجَ نقيضُ الطاعة، والتعبيرَ قرينُ الخروج على الجماعة، وتضخ أبواقُه هذا الزعم، فيبتلع كثيرون الطعم، وربما كان الصمتُ جرما، لاسيما إذا استُبيحت الحقوقُ ظلما، وهنا أنشد أبو نصر:
قال لي: الصمتَ
ولاتعجلْ
فإنَّ الصمتَ حكمةْ
أنت تأسى إن تكلمتَ
ولا تأسى إذا ما قلتَ كلْمَة
إن يكُ القولُ غماماً عارضاً
فالصمتُ ديْمة
إن يكُ القولُ سبيلاً للعلا
فالصمتُ قمة
عندما تخشى الملمّاتِ
فلا شيءَ ينجّيك
كعُجمة
كلُّ من صام عن التعبيرِ
لم يُصدمْ بأزمة
كلُّ من صام عن التعبيرِ
«مبسوطٌ» بخبزٍ
وبلقمة
سالمٌ من خاف
واستغنى
وموعودٌ بنعمة
لا ورب البيت لم يصدقْ
وما هذي بقسمة
قد يكون الصمتُ تهمة
قد يكون الصمتُ عاراً
يجلبُ اللعنَ ونقمة
قد يكون الصمتُ
إهداراً لذمة
مجرمٌ من يكتمُ الحقَّ
فما أعظمَ جُرمه
كم من الثكْلِ
ومن نارِ الأسى
في جوفِ عتْمة
كم من القول يدوِّي
هاتكاً أسدافَ ظلمة
كم من القولِ يُعرِّي
خائناً يطعنُ أمة
قال سهم بن كنانة: وطفقت أردد: سبحان الذي وهبْ، خدعونا فقالوا: الصمتُ من ذهبْ، وهممت أن أسأل أبا نصر سؤالاً آخر، لكن الطفل الذي معه طلب منه طلباً فانتهره، وأغلظ عليه وزجره، فلما رد الطفل، قال له: اصمت، لا تتكلم في حضرة الكبارْ، فما أنت إلا لوحةٌ في جدارْ، أو ذرةٌ من غبارْ، فأخذني المشهد، لكنني آثرت الصمت،
 وخرجت وأنا أتمثل بقول أحمد مطر:
قال لزوجِه: اسكتي
وقال لابنه: انكتمْ
صوتُكما يجعلني
مشوّشَ التفكيرْ
لا تنبسا بكلْمةٍ
أريد أن أكتبَ
عن حرية التعبيرْ!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق