الخميس، 27 فبراير 2014

الهروب من هموم مصر إلى وجع صدّام حسين!



الهروب من هموم مصر إلى وجع صدّام حسين!

شريف عبدالغني

هل زهقتم مثلي مما يحدث في مصر؟!
صراحة «أنا فاض بيا ومليت» كما قالت الست أم كلثوم. نفسي أفصل ولو بمقال واحد عما يحدث في المحروسة، خصوصا أن المشهد واحد: شعب يهيم عشقا في «الدكر» ويفقد إنسانيته كل لحظة، وشعب يتعرض للقتل والاعتقال ووضع المواليد بـ «الكلابشات» لأنه لا يذوب حبا في نفس «الدكر»، وهي جريمة خيانة عظمى حاليا في مصر السعيدة بدكرها وطرطورها وإلهامها ويسراها وليلاها وسماها ولميسها.
سأكتب عن بلد أحبه..
العراق.. درة تاج العرب التي ضاعت بين «إيوان كسرى» و «القبعة الأميركية». 
أمس الأول الأربعاء 26 فبراير، يكون مر 23 عاما على خروج العراق من الكويت. 
كانت مأساة نفسية مروعة بدأت مع كارثة الاحتلال وضم الكويت لتكون المحافظة العراقية الـ19، وانتهت مع إذلال العرب بنحر «صدام» صبيحة عيد الأضحى ونزع عروبة العراق وإلقائه في المزرعة الإيرانية.
المأساة بدأت رسميا 2 أغسطس 1990. في هذا اليوم، بدأت حلما انتهى بكارثة. المقدمة كانت وردية حسب تفكيري الساذج وقتها بحكم فترة مراهقتي العُمرية والسياسية، لكن محطاته كانت كوابيس مفزعة، أبرزها رجل يتقدم بثبات إلى «المشنقة» ليترك أمة مشوّشة الحكم عليه، بعضها يصب اللعنات كلما ورد اسمه، وبعضها الآخر يضعه في مصاف الشهداء والصديقين.
صباح ذلك اليوم الصيفي البعيد وكان الخميس، كنت كالعادة أستمع إلى «بي بي سي». جاء صوت المذيع أكثر جدية: «القوات العراقية تدخل الكويت، وتولى السلطة لحكومة برئاسة عقيد في الجيش الكويتي».
وقتها لم أتمهل لسماع التفاصيل، أيقظت شقيقي من نومه: «العراق دخل الكويت، وأقام حكومة ثورية». هللنا سويا. ولم لا؟ كنا نحلم بزعيم يشبه عبدالناصر الذي لم نعش عصره، لكن انتشينا بخطاباته الحماسية.
شعرنا -كما رسم ناجي العلي- أن براويز قادة الأمة بقيت خالية من الصور بعد غياب ناصر. في تكويننا نريد من يملأ هذا الفراغ..
إذن إنه صدام الذي ألهب حماسنا ووصل بنا إلى ذرى الجبال حينما هدد قبل نحو 10 أيام من غزو الكويت بتدمير نصف إسرائيل بالأسلحة الكيماوية. رحنا نتذكر ما يحكيه عنه المصريون البسطاء الذين نشلهم من الفقر والبطالة، وكثير منهم زعم أنه التقاه شخصيا وسلم عليه وأنه حمله السلام أمانة للشعب المصري كله. 
إذن كنا مؤهلين لتقبل أي شيء من هذا الزعيم الذي يهدد إسرائيل ويتحدى أميركا ويدعم الغلابة. ليس مهما أن يغزو شعبا مسالما ولا دولة مستقلة أسهمت بأحد أعظم مشروعات الثقافة العربية «مجلة العربي».
طوال نفس اليوم «2 أغسطس» تسمرنا حول الراديو والتلفزيون.. القوات العراقية تسيطر في ساعات على كامل الأراضي الكويتية، الولايات المتحدة ترفض الغزو وتدرس الموقف، دول عربية تشجب وغيرها تطالب بالتعامل مع الأمر بحكمة. العراق يؤكد تسلم حكومة «العقيد علاء حسين» السلطة في قصر دسمان.
كل شيء على ما يرام، وصدام قادر على مواجهة الأعداء. هكذا قلنا لأنفسنا قبل أن نحضر عصر نفس اليوم في دار مناسبات العائلة عقد قران أحد الأقارب. الكل حتى العريس يتحدث بإعجاب عن صدام المغوار.
ودارت العجلة سريعا.. قمة عربية طارئة في القاهرة تطالب العراق بالانسحاب الفوري دون قيد أو شرط.
مبارك يحذر صدام من «الصورة القاتمة» المقبلة. 
مجلس الأمن يجتمع وقبل أن يصدر قرارا تبدأ الولايات المتحدة تحريك قواتها باتجاه الخليج.
صدام -كما ذكر محضر رسمي لحكومته بعد ذلك- تأكد أن هدف تلك القوات ليس إخراجه من الكويت وإنما تدمير العراق وأن الحرب واقعة لا محالة، ومن هنا تم الإعلان سريعا: «الكويت المحافظة العراقية الـ19»، ليدافع عنها الجندي العراقي باستماتة باعتبارها أرضه.
لفظنا الإعلام الحكومي الذي أعلنها حربا شرسة ضد العراق، لجأنا لكتابات الراحل عادل حسين في جريدة «الشعب» الذي أكد قدرة صدام على دحر الأعداء.
رسمت وقتها كاريكاتيرا يصور السكين الأميركي وهو يستعد لذبح العراق وسط فرحة من أشخاص يمثلون الأنظمة الرسمية العربية، وأرسلته لنفس الصحيفة فسرق رسامها الفكرة وأعادها بريشته موقعا اسمه عليها.
«الحرب تندلع في الخليج».. هكذا أعلن مذيع الـ «بي بي سي» ليلة 16-17 يناير 1991.. الطائرات تدك العراق.. 
ياسر عرفات بصوته مساء: «العراق امتص الضربة الأولى، وقادر على النصر بقيادة الفارس صدام».
عادل حسين يكتب في اليوم التالي «أيها العرب.. أيها المسلمون.. إخوانكم يبادون فهبوا إلى نجدتهم».
42 يوما وفكرنا الضحل لا يشكك في انتصار الأشاوس.. وفجأة راديو «مونت كارلو» ينقل صوت الزعيم نفسه وهو يطالب «القوات العراقية البطلة بالانسحاب من الكويت»، وسريعا يرسل مندوبه ليوقع «وثيقة الاستسلام» في خيمة «صفوان» على الحدود الكويتية.
على هذا الحال استمر الأمر حتى 2003، في كل مرة يبشرنا فيها صدام بقمة المجد، نجد أنفسنا في جُب الانكسار.
بعد سقوط تمثال «الزعيم القائد» في ميدان الفردوس كنت من أوائل الصحافيين المصريين والعرب الذين ذهبوا للعراق، هالني ما سمعت ورأيت عن المآسي الإنسانية في عهد صدام.
كل السقوط النفسي الذي سببه لي وللعرب، جعلني أصمم على كرهه. حاولت.. وفشلت!
تعاطفت مع صدام الطفل الصغير ابن السنوات العشر، الذي كان زوج أمه يضع قطعة من إسفلت الشوارع في نهاية عصا ليضربه على رأسه، فيهيم على وجهه في البرية، وفي طريق عودته للمنزل في قريته «العوجة» يقابله الصبية الأشقياء فيضربونه. لم يستطع التحمل.. ضرب في المنزل وخارجه.
عقد العزم وأحضر سيخا حديديا وانهال به على أحد الصبية في بطنه، ويقال إنه قتله. خافت عليه أمه فذهبت به إلى بغداد عند شقيقها خير الله طلفاح. رأى صدام ابن خاله ذا الستة أعوام يكتب، بينما هو لا يعرف، وأدرك خاله ماذا يريد الصبي، فأدخله سنة أولى ابتدائي وقد تخطى عامه العاشر، ورسم له خريطة العراق بعد أن ضم إليها حدود الكويت، ليضع هذا الخال اللبنة الأولى في عقلية ابن أخته، لكنه في الوقت نفسه رسم له طريق النهاية!
ودارت الأيام دورتها وأصبح صدام قائدا، وأتى بابن خاله الذي سبقه في التعليم «عدنان خير الله» ليكون وزير دفاعه.
اندهشت من إقدام صدام الشاب وهو يشارك في عمر التاسعة عشرة في محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم، ثم يهرب إلى سوريا ليلتقي مؤسس «البعث» ميشيل عفلق، فيعجب هذا المفكر والمنظر الكبير بجرأة ذلك الشاب الصغير، وفي الوقت نفسه ينبهر الشاب بثقافة المفكر ويقرر أن يقرأ ليكون مثله.
تمنيت أن أرى صدام لأواسيه في الحدث الجلل الذي يهز أعتى الجبال.. مقتل ولديه عدي وقصي وحفيده مصطفى بعيدا عنه في الموصل.
احترمت اختياره المأساوي برفض العرض السخي من الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بترك السلطة والعيش معززا مكرما هو وعائلته في الإمارات. رفض لأنه قرر أن يبقى وجعنا الذي لن يطيب.
المفارقة أن قريبي الذي تزوج يوم غزو الكويت، لم ينجب حتى الآن، وكأنه تعبير عن «العقم» الذي أصاب الأمة منذ ذلك اليوم المشؤوم!!

شريف عبدالغني
shrief.abdelghany@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق