ثورات الخوارج (2)
ابن سبأ وأتباعه بعد مقتل عثمان |
هيثم الكسواني – كاتب أردني
خاص بالراصد
تناولنا في الحلقة الماضية دور اليهودي عبد الله بن سبأ في الخروج على خليفة المسلمين الثالث، عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وقتله، في سنة 35هـ، كأول ثورات الخوارج ضد المسلمين، ما أدّى إلى زعزعة الدولة الإسلامية، وفتح باب الفتن والشرور.
وفي هذه الحلقة، نواصل الحديث عن مؤامرات الخوارج وثوراتهم وإفسادهم بعد قتلهم عثمان رضي الله عنه، حيث تعود بنا الذاكرة إلى تلك اللحظات العصيبة التي أعقبت قتل عثمان، رضي الله عنه، على يد الخوارج البغاة، الذين قدموا إلى المدينة المنورة من العراق ومصر، على وجه الخصوص، حيث استطاع هؤلاء السيطرة على المدينة، والتحكم بها، لدرجة أن الغافقي بن حرب، أحدَ قادة التمرد، وأحدَ قتلة عثمان، أصبح أميرا على المدينة، ولمدة خمسة أيام([1]).
بعد ذلك، سعى الخوارج المارقون إلى تنصيب خليفةٍ من الصحابة بعد عثمان، فعرضوا الخلافة على علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، رضي الله عنهم، إلاّ أن الصحابة زهدوا في الخلافة، ولم يجيبوهم إلى ما طلبوا، وكانوا يتجنّبونهم، إلى أن أيقن عليٌّ، رضي الله عنه، "أن لا مفرّ من تحمل المسؤولية"([2]).
بويع عليٌّ بالخلافة في الأيام الأخيرة من العام الخامس والثلاثين للهجرة، وكان الصحابة، رضي الله عنهم، "يرون أنه أفضل مَن بقي من الصحابة البدريين، والعشرة المبشرين بالجنة"([3]).
وعلى الرغم من أن اختيار عليٍّ للخلافة تم من الصحابة المتواجدين في المدينة آنذاك، ومن الخوارج البغاة، على حدٍّ سواء، إلاّ أنه وجد نفسه أمام مهمة صعبة، فالخوارج -بأعدادهم الكبيرة- يسيطرون على المدينة، والإشاعات والأكاذيب تنتشر بأنه تواطأ على قتل عثمان، والصحابة يلحّون عليه بالاقتصاص من القتلة.
وعلى الجانب العقائدي، كان ابن سبأ يتمادى في انحرافاته، فإذا كانت بدايته الزعم بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيعود إلى الدنيا بعد الموت، أسوة بعيسى بن مريم، عليه السلام، فإنه سرعان ما انتقل ليتخذ عليًّا وآل البيت، رضي الله عنهم، ستارا لإفساد عقيدة المسلمين، فقد زعم هو وأتباعه أن النبي صلى الله عليه وسلم عهد لعلي بالحكم من بعده، وأن لدى عليّ علمًا خاصًا، وأن النبي خصّه بشيء من ذلك([4]).
ومن الأباطيل التي قال بها ابن سبأ أيضًا: الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة رضي الله عنهم، والتبرؤ منهم، والادّعاء بأن عليًّا هو من أمره بذلك([5])، ثم وصل الغلو ذروته بادعاء أن عليًّا نبي ثم إله([6])، وأنكر موت علي، وادّعى أنه حي يُرزق([7])، ثم زعم ابن سبأ أن عليًّا صعد إلى السماء، وأنه في السحاب، وأن الرعد صوتُه، والبرق سوطُه([8])، وعلى هذه الأفكار أقام ابن سبأ عقيدة الشيعة لاحقاً.
ومثلما كاد ابن سبأ وأتباعُه لعثمان، وانتهى الأمر إلى قتله، كادوا لعليٍّ، فمشكلتهم ليست مع عثمان، ولا مع وُلاته وأقاربه، بل هي مع الإسلام وأهله، فبعد بيعته، أصدر عليٌّ قراره الأول المتمثل بخروج هؤلاء الغوغاء من المدينة، لكنهم رفضوا قرار الخليفة، بل تحدّوا وتوعّدوا قائلين "لنا غدا مثلها"، وأضمروا الإطاحة به هو أيضا وأخذوا يتربصون به الدوائر([9]).
وفي المقابل، كان عليٌّ، هو الآخر، يكرههم ويتربص بهم الدوائر، "ويودّ لو تمكّن منهم ليأخذ حقّ الله منهم"([10]). لكن عليًّا كان يفسّر عدم الاقتصاص منهم بعدم قدرته على ذلك، بسبب قوتهم وكثرتهم، ودعم قبائلهم لهم، "فرأى أن المصلحة تقتضي تأخير القصاص لا تركه"([11])، وأبقى هذا الأمر سرًّا بينه وبين الصحابة، "حتى لا ينتشر الأمر ويعلم الثوار بذلك، فيجددوا ثورتهم ويقتلوا عليًّا، وتتجدد المأساة"([12]).
المهم؛ أن هؤلاء أصبحوا من جند عليٍّ، بل ومن خواصّه، كما يقول ابن كثير: "وصار أحظى الناس عنده –بحكم الحال وغلبة الرأي، لا عن اختيار منه لذلك- رؤوس أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان"([13]). وقد تمكّنوا من ذلك بعد أن استحوذوا عليه وحجبوا عنه علية الصحابة([14]).
وتمرّ الأيام، ويجد عليٌّ، رضي الله عنه، ذات يومٍ نفسَه في مواجهة جيش فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وفيه كبار الصحابة كطلحة والزبير، رضي الله عنهما، لا أحدَ منهم يريد قتال الآخر، بل الخلاف يدور حول معاقبة قتلة عثمان، ووقف إفسادهم.
ولنزع فتيل الخلاف، أرسل عليٌّ المقداد بن الأسود والقعقاع بن عمرو إلى طلحة والزبير رضي الله عنهم جميعًا، واتفقوا على الصلح وعدم القتال([15])، لكن الخوارج البغاة من أتباع ابن سبأ رأوا في ذلك الصلح شرّا مستطيرا عليهم وعلى مصالحهم، إذ أن اتفاق كلمة المسلمين ووحدتهم ستؤدي إلى التفرّغ لهؤلاء البغاة، ومعاقبتهم على قتلهم عثمان([16]).
اجتمع رؤوس الخوارج برئاسة ابن سبأ لبحث كيفية تعطيل الاتفاق، وقد رأى أحدُهم، وهو الأشتر، قتل عليٍّ، وإلحاقه بعثمان، لتعود فتنة، إلاّ أن ابن سبأ كره هذا الرأي منه، لأن عدد أهل الكوفة من قتلة عثمان قليل مقارنةً بالجند الذين كانوا مع القعقاع، وهو ما سيؤدي إلى قتلهم([17]).
وتعددت الآراء، ورأى هؤلاء في النهاية أن يفسدوا الصلح من خلال إنشاب القتال بين الجيشين، وقد قال لهم الشّقي ابن سبأ: "يا قوم: إنّ عزّكم في خلطة الناس، فصانِعوهم، وإذا التقى الناس غدًا فأنشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر، فإنّ من أنتم معه لا يجد بدّا من أن يمتنع، ويشغل الله عليّا وطلحة والزبير ومَن رأى رأيهم، عمّا تكرهون"([18])
وفي جنح الظلام، وبينما أفراد الجيشين نائمون، تسلل أتباع ابن سبأ إلى المعسكرين، وقتلوا بعض الجند، فظنّ كل معسكر أن المعسكر الآخر قد غدر به، ما أدى إلى نشوب القتال، كما خطط لذلك الخوارج السبئية، حيث خفيت حقيقة المؤامرة على الطرفين([19]).
واندلعت المعركة التي عُرفت فيما بعد بـ "الجمل"، نسبةً إلى الجمل الذي كانت تركبه أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، في سنة 36هـ، وسقط فيها الكثير من المسلمين، ومنهم طلحة، والزبير رغم تركه القتال، وشكّلت "الصدام الأول بين أهل الإسلام"([20])، تمامًا كما يصنع اليوم الخوارج المعاصرون الذين تفرغوا لقتال المسلمين، ومنهم تنظيم داعش الذي وضع جلّ طاقته في قتال فصائل الثورة السورية المحاربة لنظام الأسد وأسياده الشيعة وإيران، فخفف الضغط عن النظام المجرم، وأعاد الثورة إلى الوراء.
استطاع الخوارج أن يكسبوا معركة مهمة في صراعهم مع أهل الإسلام بافتعالهم لمعركة الجمل، إذ أدّت إلى إضعاف المسلمين، وانشغالهم عن الاقتصاص من قتلة عثمان، لينتقلوا إلى مؤامرة أخرى من مؤامراتهم، وإفساد آخر، وهو ما سنتحدث عنه في المقال القادم بإذن الله.
ثورات الخوارج (1) ابن سبأ والخروج على عثمان
[1] - ابن كثير، البداية والنهاية، ص 1477.
[2] - د. حافظ موسى عامر، أصول وعقائد الشيعة الاثنا عشرية تحت المجهر، ص 147.
[3] - محمد الإمام، رافضة اليمن على مرّ الزمن، ص 27.
[4] - د. عطا الله المعايطة، جهود الصحابة والتابعين في تقرير العقيدة والردّ على الفرق، ص 561 – 562.
[5] - المصدر السابق، ص 562.
[6] - المصدر السابق، ص 569.
[7] - المصدر السابق، ص 572.
[8] - المصدر السابق، ص 574.
[9] - أصول وعقائد الشيعة الاثنا عشرية، ص 151 – 152.
[10] - البداية والنهاية، ص 1479.
[11] - الشيخ عثمان الخميس، حقبة من التاريخ، ص 182.
[12] - أصول وعقائد الشيعة الاثنا عشرية، ص 154.
[13] - البداية والنهاية، ص 1479.
[14] - المصدر السابق نفسه.
[15] - حقبة من التاريخ، ص 177، وأصول وعقائد الشيعة الاثنا عشرية، ص 160.
[16] - أصول وعقائد الشيعة الاثنا عشرية، ص 161.
[17] - المصدر السابق، ص 163.
[18] - المصدر السابق، ص 164.
[19] - المصدر السابق، ص 165.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق