تقديم شريف عبد العزيز
هذا عنوان رسالة شيقة ألفها الإمام العلامة الإخباري أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان البغدادي، صاحب التصانيف الماتعة في التفسير وعلوم اللغة والأدب والشعر، وهو من طبقة الإمام ابن جرير الطبري، وتوفي معه في نفس العام 310 هجرية، وقد أورد في هذه الرسالة الشيقة العديد من المواقف والأخبار والآثار التي وردت في عجائب وطرائف أحوال الكلاب مع الناس، وكان الداعي وراء تأليف هذه الرسالة الفريدة في بابها طلب بعض أصحاب الإمام أبي بكر منه أن يجمع طرفًا من الأخبار والآثار التي وردت في فضل الكلب على شرار الإخوان ومحمود خصاله في السر والإعلان، وقد انتقينا طرفًا من تلك المواقف والأخبار والآثار لما فيها من الفوائد والعبر.** روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قتيلاً فقال: ((ما شأن هذا الرجل قتيلاً؟)) فقالوا: يا رسول الله، وثب على غنم أبي زهرة فأخذ شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قتل نفسه وأضاع دينه وعصى ربه عز وجل وخان أخاه، وكان الكلب خيرًا من هذا الغادر)) ثم قال: ((أيعجز أحدكم أن يحفظ أخاه المسلم في نفسه وأهله كحفظ هذا الكلب ماشية أربابه)).
** رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعرابيًا يسوق كلبًا فقال: ما هذا الذي معك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، نعم الصاحب؛ إن أعطيته شكر وإن منعته صبر، فقال عمر: نعم الصاحب فاستمسك به.
** ورأى ابن عمر رضي الله عنهما مع أعرابي كلبًا فقال: ما هذا؟ قال: من يشكرني ويكتم سري، قال: فاحتفظ بصاحبك.
** قال ابن عباس رضي الله عنهما: " كلب أمين خير من إنسان خئون".
** قال الأحنف بن قيس: "إذا بصبص الكلب فثق بود منه، ولا تثق ببصابص الناس، فرب مبصبص خوان".
** قال الشعبي: "خير خصلة في الكلب أن لا ينافق في محبته".
** قال الحسن البصري: "في الكلب عشر خصال محمودة ينبغي أن تكون في كل مؤمن:
الأولى: أنه لا يزال جائعًا حتى يطعم، وذلك من آداب الصالحين.
والثانية: لا يكون له موضع يعرف به، وذلك من علامة المحبين.
والثالثة: أنه لا ينام من الليل إلا قليلاً، وذلك من صفات المحسنين.
والرابعة: إذا مات لا يكون له ميراث، وذلك من أخلاق الزاهدين.
والخامسة: أنه لا يترك صاحبه وإن جوعه وطرده، وذلك من شيم المريدين.
والسادسة: أنه يرضى من الدنيا بأدنى مكان، وذلك من إشارة المتواضعين.
والسابعة: أنه إذا غلب على مكانه تركه وانصرف إلى غيره، وذلك من علامة المتواضعين.
والثامنة: أنه إذا ضرب وطرد ودعي أجاب ولم يحقد، وذلك من أخلاق الخاشعين.
والتاسعة: أنه إذا حضر شيء للأكل قعد ينظر من بعيد، وذلك من أخلاق المساكين.
والعاشرة: إذا رحل من مكانه لا يرحل معه شيء ولا له شيء يلتفت إليه، وذلك من صفات المجردين.
**كان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، شديد المحبة لهم، فعبث أحدهم بزوجته وبعث إليها وراسلها، فعلقت به، وكان للحارث كلب رباه، فخرج الحارث في بعض متنزهاته ومعه ندماؤه، فتخلف عنهم ذلك الرجل، فلما بعد الحارث عن منزله جاء نديمه إلى زوجته وأقام عندها يأكل ويشرب، فلما اضطجعا وصار على بطنها وثب عليهما الكلب فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله نظر إليهما عرف القضية وأوقف ندماءه على ذلك ثم أنشأ يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني
ويحفظ عرسي والخليل يخون
فيا عجبًا للخل يهتك حرمتي
ويا عجبًا للكلب كيف يصون
** قال أبو عبيدة في طبقات فحول الشعراء في سبب هذا البيت من الشعر
يعرج عن جاره وشقيقه ويرغب فيه كلبه وهو ضاربه
إن رجلاً من أهل البصرة خرج مع شقيقه وجاره إلى ظاهر البصرة لينتظروا قدوم تجارة له، فأتبعه كلب له، فطرده وضربه وقد كره الرجل أن يتبعه ثم رماه بحجر فأدماه، فأبى الكلب إلا أن يتبعه، فلما وصل إلى موضع معين وثب به قوم كانت لهم عنده طائلة، فهرب جاره وأخوه وتركاه، فجرح جراحات كثيرة، ورموه في بئر وحثوا عليه بالتراب حتى واروه، ولم يشكوا في موته، والكلب مازال يكر عليهم وهم يرجمونه فلما انصرفوا أتى الكلب إلى رأس البئر فلم يزل يعوي ويبحث بالتراب بمخالبه حتى ظهر رأس صاحبه وفيه نفس يتردد، وقد كان أشرف على التلف، ولم يبق فيه إلا حشاشة نفسه ووصل إليه الروح، فبينما هو كذلك إذ مر أناس فأنكروا مكان الكلب، ورأوا كأنه يحفر قبرًا، فجاءوا إذا هم بالرجل على تلك الحال فاستخرجوه حيًا وحملوه إلى أهله، وأطلق على ذلك الموضع بعدها بئر الكلب.** كان للربيع بن بدر كلب قد رباه، فلما مات الربيع ودفن جعل يتضرب على قبره حتى مات، وكان للعامر بن عنترة كلاب صيد وماشية وكان يحسن صحبتها فلما مات لرفت الكلاب قبره حتى ماتت عنده وتفرق عنه الأهل والأقارب.
** مر والي أرمينية على إحدى قرى الإقليم فوجد بها قبرًا، عليه قبة مبنية كبيرة مكتوب عليها: (هذا قبر الكلب) فسأل عن خبرها فدله أهل القرية على شيخ كبير فسأله عن الخبر فقال: (كان في هذه الناحية منذ سنوات طويلة ملك عظيم الشأن وكان مشهورًا بالصيد والنزاهة، وكان له كلب قد رباه، فخرج يومًا إلى متنزهاته وقال لطباخه: اصنع لي ثريدة لبن فقد اشتهيتها ) وخرج إلى متنزهاته، فصنع له الطباخ ثريدة عظيمة ونسي أن يغطيها بشيء فجاءت حية من بعض الشقوق، فكرعت من ذلك اللبن ومجت في الثريدة من سمها والكلب رابض يرى ذلك كله ولا يستطيع ردها، وكان عند الملك جارية خرساء زمنى قد رأت الأمر كله، فلما رجع الملك من الصيد طلب الثريدة ليأكلها، فنبح الكلب بشدة وصاح، فلم يلتفت إليه، فرموا إليه ببعض الطعام فلم يقربه ولج في الصياح، فلما رأى الملك يمد يده إلى الثريدة وثب إلى وسط المائدة وأدخل فمه في اللبن وكرع منه، فسقط ميتًا وتناثر لحمه، فبقي الملك متعجبًا مما جرى فأومأت الجارية الخرساء إليهم فعرفوا القصة، فقال الملك لغلمانه وحاشيته: ( قد فداني بنفسه، لحقيق بالمكافأة، وما يحمله ويدفنه غيري، وبنى عليه قبة وكتب عليها الخبر).
** قال الشيخ زكريا بن محمد القزويني في كتابه المسمى " عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" في باب الكلب: ( مد ذكاء الكلب أنه إذا تبع الظباء يعرف التيس من العنز، فيترك العنز ويقصد التيس، وإن كان التيس أشد عدوًا، لكن يعلم أن التيس سيعتريه البول من الفزع فلم يستطع الإراقة مع شدة الحصر، فيقل عدوه حتى يقف فيلحقه الكلب، وأما العنز إذا اعتراها البول أراقت لسعة السبيل وسهولة المخرج فلا تقصر).
هذا طرف من الأخبار والآثار الطريفة التي أوردها الإمام ابن المرزبان في رسالته الشيقة، والتي قام بتجميعها من أطراف الكتب وروايات الثقات ومما كان يتناقله الناس من عهد الصحابة إلى وقت كتابة الرسالة، وجاء بعد ابن المرزبان من كتب على نفس المنهج وسار على منواله في جمع أخبار وطرائف الآثار في عجائب المخلوقات ونوادر الموجودات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق