غوانتنامو قصَتي".. طريق الحرب
سامي الحاج
مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات، ومعتقل سابق بسجن غوانتنامو.
بعد سلوكنا دروبًا وعرةً أوقفنا سيارتنا، وصعدنا الجبل مشيًا على الأقدام لمدة ساعتين، ولأني غير متعود صعودَ الجبال خصوصًا أن سفح الجبل كان باردًا جدًّا، أخذني اللهاثُ والرهق، ولكني تحاملت واستطعت المشي. في الطريق إلى القرية، وجدنا شظايا من الصواريخ، وحفرًا عميقةً جرَّاء القنابل التي كانت تُسقطها الطائرات الأميركية. حُفرًا عميقة أحدثتها تلك القذائف الصاروخية الهائلة، لدرجة أن الحفرة يمكن أن تبتلع شخصًا معتدل الطول وتخفيه بداخلها تمامًا."
بالنسبة لي كان ذلك أول دليل يؤكد أن تلك القنابل تحتوي على أطنان من المواد المتفجرة. وبالفعل علمت فيما بعد أنها كانت تتجاوز في الوزن عشرة أطنان للقذيفة الواحدة. واصلنا المسير المضني بين تلك الحفر المرعبة، وبعد جهد جهيد وصلنا إلى مشارف القرية، حتى إذا وصلناها ودخلناها وجدناها كلها تحت الأنقاض! وما هي إلا وهلة حتى تبدَّى لنا جليًّا أن أهلها الذين طالهم القذف ولحق بهم الضرر ما هم إلا بعض البدو البسطاء الذين لا شأن لهم بالأميركيين ولا ارتباط لهم مطلقًا بحركة طالبان. كل ما في الأمر أن هؤلاء البدو نتيجةً للصقيع وشدة البرد غير المحتمل يحفرون مساكنهم في الجبل تاركين فتحاتٍ علويةً بغرض التدفئة، مما يجعل من ينظر إليها من فوق يحسبها خنادق. وكالعادة وعلى عجل قصفها الأميركيون على أساس أنهم يقصفون خنادق لطالبان دون أن يتحققوا من حقيقة تلك الفتحات أو يتأكدوا من هوية ساكنيها الأبرياء.
أفرزت الحرب على الإرهاب أشكالًا جديدة-قديمة من الانتهاكات لحقوق الإنسان بما يتعارض مع كل ما عُرف من معاهدات ومواثيق دولية، مثل: التعذيب، والاحتجاز في مراكز سرية، وتسليم المشتبه بهم إلى دول تمارس التعذيب. |
فيما بعدُ، مررت بتجارب أكدت لي أن الأبرياء يموتون كلَّ يوم فقط لأن القتلة على عجلة من أمرهم لا يريدون أن يُحققوا أو يتحققوا أو يتأكدوا، فما حدث لأهل قرية الجبل تذكرته يوم قُتل ديلاوار سائق التاكسي الأفغاني البسيط في معتقل قاعدة باغرام. قُتل ديلاوار في ديسمبر/كانون الأول 2002، وقد كشف تحقيق أجراه الجيش الأميركي الطريقة الرهيبة التي قُتل بها؛ إذ ورد في التقرير أنه اعتُقل لأنه كان في المكان الخطأ في الوقت الخطأ، وظل مقيدًا بالسلاسل بسقف زنزانته لفترت طويلة خلال أربعة أيام مغطى الرأس والوجه معظم الوقت، وتم أحيانًا تجاهل توسلاته لإعطائه جرعة ماء. وبحسب تقدير التقرير ضُرب أكثر من مئة مرة على ساقه فوق الركبة مباشرة خلال أربعٍ وعشرين ساعة. وبحسب ما قاله أحد المراقبين: "تحولت ساقاه إلى ما يشبه العجينة".
وأُنشئ معتقل قاعدة باغرام آنذاك ليكون أولى محطات الاعتقال للحرب على ما يسمى الإرهاب، وكان الهدف منه التحقيق بأسرع ما يمكن مع المعتقلين لانتزاع معلومات تفيد في القبض على المطلوبين الكبار كما كان يحلو لهم أن يسموهم. وعليه، فقد كانت فترة معتقل باغرام بالنسبة لنا من المراحل الشديدة الألم؛ إذ كُرِّست فيها المعاملة السيئة وفنون التدجين الأولى. كانت مرحلة المباغتة بالضرب والتعذيب والإهانة وتدنيس الكرامة والدِّين، مرحلة مباغَتة شخص مدني عادي لتحيله مسجونًا عليه أن يُذعن ويسمع ويطيع، بل ويكذب حينما يُطلب منه ربما لتوريط من يسعى الأميركيون لتوريطه, ولا حول ولا قوَّة إلا بالله! نحن نعيش في عالم يتصدَّع، لأن قيمه التي ما انفكَّ يرفعها قد تهاوت.
كان الاعتقاد السائد في أواخر القرن الماضي أن العالم المتحضِّر يتجه نحو المثالية في احترام حقوق الإنسان، بيد أنَّ هذا الاعتقاد بدأ في التقهقر على نحو مريع في السنوات الأخيرة، ولاسيما في ظل ما يسمى "الحرب على الإرهاب"، التي نجم عنها تراجع في احترام قيم حقوق الإنسان المعترف بها، بحيث أصبحت هذه القيم الإنسانية تشهد انتهاكات صارخة.
يحدث هذا ليس فقط من قِبل الأنظمة الديكتاتورية الشمولية، بل من قبل الحكومات والدول التي راحت على الدوام تدعي أنها حامية حقوق الإنسان والحريات والتحرر. لقد أفرزت الحرب على الإرهاب أشكالًا جديدة-قديمة من الانتهاكات لهذه الحقوق بما يتعارض مع كل ما عُرف من معاهدات ومواثيق دولية، مثل: التعذيب، والاحتجاز في مراكز سرية، وتسليم المشتبه بهم إلى دول تمارس التعذيب، إضافة إلى الاعتقال لفترات طويلة دون محاكمة؛ لمجرد الاشتباه! ثم الحرمان من الحق في التقاضي والحق في الصمت إلى حين توكيل محامٍ أو جهةٍ قانونية.
لكي نتغلب على عدو أميركا الجديد يجب علينا الاعتماد على الجانب المظلم في عالم الاستخبارات، يجب أن نعمل بعيدا عن الأضواء واستخدام مصادر متاحة لوكالات الاستخبارات لنتمكن من تحقيق النجاح. |
لم يكن للمرء أن يتصور أن الولايات المتحدة (راعية الديمقراطية في العالم، ورائدة العالم الحر) سوف تلجأ إلى ممارسات بوليسية وتدير سجونًا سرية. أضف إلى ذلك الملاحقات عبر الحدود والاختطافات لأناس لمجرد الاشتباه فيهم، واستخدام أساليب التعذيب الجسدية والنفسية! لكن الرئيس بوش قاد الولايات المتحدة إلى تلك الطريق، طريق الحرب.
وللانتصار قال: إنه ينبغي في الأساس الحصول على معلومات من إرهابيين معروفين أو مشتبه فيهم. وقبل ذلك التصريح لبوش بأربعة أيام فسَّر نائبه، ديك تشيني، في مقابلة له في برنامج ميت ذا بريس (Meet the press) على شاشة "إن.بي.سي" NBC بأنه لكي نتغلب على عدو أميركا الجديد يجب علينا الاعتماد على الجانب المظلم في عالم الاستخبارات، يجب أن نعمل بعيدًا عن الأضواء؛ فالكثير مما يجب القيام به هنا، يجب القيام به بهدوء، من دون أية مناقشة، وباستخدام مصادر وطرق متاحة لوكالات الاستخبارات لكي نتمكن من تحقيق النجاح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق