قصتي"غوانتنامو".. السجين رقم 345
سامي الحاج
مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات، ومعتقل سابق بسجن غوانتنامو.
وبعد المغرب كانوا يأخذون كل معتقل إلى خيمة أخرى، وهناك تبدأ حلقة جديدة من مسلسل الإهانة والذل، حيث يَشُقُّ ويمزّق الجنود ملابس المعتقل كلها ليبقى عارياً تماماً كما ولدته أمه! ثم يقومون بفحصه فحصاً مذلاًّ! وبعد ذلك يسلمون المعتقل ملابس برتقالية ويلتقطون له صوراً عدّة بتلك الملابس التي تحمل رقمه.
في شهر أبريل/ نيسان غيروا أرقامنا فمنحوني الرقم (345) بدلا من (448)، وكانوا يقومون ـ كما أسلفت ـ بتصويرنا بالرقمين ثم يجرون بعض الفحوصات، وأهمها عينات من الدم وشعر الوجه واللعاب، ثم يأخذون بصمات العين والأصابع. بعد ذلك ينقلون المعتقل إلى الطائرة وهو مقيد بسلسلة قصيرة ترغمه على أن يبقى مطأطِئَ الرأس محدودباً.
والأدهى أنهم يشدون الأقفال على يديك ورجليك حتى تتألم بفعل انحباس الدم، ثم يضعون على يديك قفازات لا أصابع لها بحيث تكون الأصابع الأربع في وعاء واحد، وتبقى الأصبع الكبيرة (الإبهام) في وعاء آخر، ويوضع غطاء الرأس الأسود على رأسك، ويضعون كمامة على فمك، وعلى عينيك نظارات سوداء معتمة كتلك التي يستخدمها فنيو الحدادة واللحام.
ولا يكتفون بكل هذه الأنماط المتعددة من الإهانات والإمعان في الإذلال، بل يضعون سماعات كبيرة تحجب الصوت عن أذنيك. ثم تقاد في صف مقروناً بحبل مع المعتقلين الآخرين، تتنابح من حولك كلاب الحراسة ويلاحقك صياح الجنود وسبابهم وهمهماتهم. وفي منتصف الطائرة يجلسونك على مقعد خشبي طويل شبيه بخشبة النعش ويربطونك من قدميك المقيدتين أصلاً بأرضية الطائرة بسلسلة حديد ثقيلة، وتظل على هذا الوضع حتى تحط الطائرة على أرض المطار.
ويتناهى إلى أذني حفيف الموج في الخليج العربي القريب فأعود أذكر معاقل الخليج الآخر، الخليج الغريب، أذكر الأسلاك الشائكة، قعقعة السلاح، عواء الكلاب، ألوان قمصاننا التي تذكر بلون الدم، لون الموت، وتعلو صرخات الألم المنبعثة من كل مكان!
أحياناً تنتابني موجة ذهول تخفف ألم البدن ولكنها تعمق جراح النفس. وأعود أسأل نفسي: كيف بدأ كل شيء؟ وأتذكّر صبيحة وصولنا إلى مدينة كراتشي الباكستانية، يوم أقلّتنا منها طائرة الخطوط الباكستانية إلى إسلام أباد.
وفي مطار العاصمة، وجدنا فريقاً من السفارة القطرية، فذهبنا معهم إلى مباني السفارة حيث التقينا نفراً منهم السفير آنذاك عبد الله فلاح؛ بقينا معهم في جو ضيافة عربية، في قاعة كبيرة فرشت فيها المناضد بصواني الأرز، من فوقها الخراف الكاملة المسلوقة والمحمرة على الطريقة العربية، وعلى الزوايا أباريق القهوة العربية. انتقلنا إلى فندق قريب، التقينا فيه بمراسل الجزيرة الزميل أحمد زيدان.
مكثنا ثلاث ليال في ذلك الفندق في إسلام أباد، وقد ساعدنا أحمد زيدان في الحصول على التأشيرات المطلوبة من السفارة الأفغانية. أذكر أن السفير يومئذ كان عبد السلام ضعيف، وقد أصبح رفيقاً لنا في غوانتانامو فيما بعد.
خلال الأيام التي مكثتها في باكستان، بدأتُ أستعيد وقع اللغة الأوردية الجميلة في أذنيَّ، كما كنت أستمتع بصحبة الناس في الشوارع والأزقة والتحدث إليهم، وتناول أطباق البرياني والجيكن، وشرب الشاي الكرك ذي البهار؛ فأنا لست غريباً عن شبه القارة الهندية وأصقاعها؛ إذ جعلتني سنوات الدراسة الجامعية في الهند آلف تلك الأرض والسحنات، وأحبها وأحب أهلها وأتعاطف معهم على اختلاف مشاربهم.
سنواتي في الهند من أهم سنوات التكوين؛ فقد جعلتني أنفتح على ثقافة ضخمة وتاريخ لحضارة تضرب بعيداً في أصل التاريخ.
بمجرد حصولنا على التأشيرات، انطلقنا من إسلام أباد متوجهين إلى منطقة كويتا. وهناك نزلنا في فندق يضم جميع الصحفيين الأجانب وبالأخص الزملاء في "سي.أن.أن" التي كانت تربطها يومئذ بالجزيرة اتفاقية تعاون. كنت دائماً أكنُّ احتراماً خاصاً للعاملين في مجال الصحافة والإعلام، منذ سنوات الطفولة الأولى. ميولي الصحفي ظهر منذ دخولي المدرسة الإعدادية، فقد قادني ولعي بالكتابة إلى تحرير صحيفة "المشكاة" الطلابية، وهي صحيفة جدارية أخذ بيدي فيها أساتذتي، وأعانني عليها زملائي من الطلاب، فصمدت "المشكاة"، وظلت تصدر بانتظام طوال سنوات الإعدادية.
ولم تكن فترة دراستي في الهند خلواً من تلك الميول الإعلامية، لكنها كانت تتخذ في الأغلب شكل نشاط في المنتديات والأعمال الثقافية، وأحياناً تلبس لبوس الإنشاد الشعري. لكن خلال تلك السنوات لم يكن هناك عمل صحفي بالمعنى المهني، ولعله كان مجرد فضول صحفي، فضولٍ تحوَّل احترافاً وسط عمالقة من المحترفين.
خلال الرحلة كان كل شيء ممنوعاً؛ فالأكل ممنوع، وقضاء الحاجة ممنوع، والنوم كذلك ممنوع. الشيء الوحيد المتاح هو جرعة ماء تذكرك بأيام المهد وحياة الأطفال الرضع. |
مكثنا في كويتا ثلاث ليال، وقابلنا فيها مراسل الجزيرة حسن الراشدي الذي كان يغطي تلك المنطقة. ثم دخلنا إلى أفغانستان عن طريق المنطقة الحدودية جمان، ثم بولدق، وهي بداية المناطق الأفغانية، بداية الطريق إلى غوانتانامو في ليلة لا كليلتي هذه.. ليلة لا تعرف طائراً ولو مهيضَ الجناح.. إنها ليلة من ليالي قندهار.
في الساعة التاسعة ليلاً تقريباً أقلعت بي مع آخرين طائرة غريبة في رحلة قدّر لها أن تكون رحلة لعذاب سيمتد لما بين أربع إلى خمس ساعات، كنا خلالها ممنوعين من النوم يراقبنا جنود يشتموننا ويضربوننا كلما مال أحدنا على أخيه، أو حاول أن يميل على فراغ في المقعد الخشبي الصلد.
خلال الرحلة كان كل شيء ممنوعاً؛ فالأكل ممنوع، وقضاء الحاجة ممنوع، والنوم كذلك ممنوع. الشيء الوحيد المتاح هو جرعة ماء تذكرك بأيام المهد وحياة الأطفال الرضع، يجرعك إياها الجندي بعد أن يزيل الكمامة عن فمك. لك الحق في رفضها بإيماءة من رأسك المغطى بذلك الغطاء الذي يشبه قبعة المهرج.
رفضت كما رفض زملائي شرب الماء عندما عرفنا أن الحمامات غير متاحة. والحقيقة أنني لم أكن محتاجاً للحمامات، ولكنني كنت في حاجة ماسة لتحريك رجلي بفعل آلام الركبة والآلام الناتجة عن القيود الضاغطة على الأوردة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق