الأربعاء، 20 يونيو 2018

بين زبيدة وزبيدة يتوقف التاريخ

بين زبيدة وزبيدة يتوقف التاريخ
سيلين ساري

وكأن التاريخ يأبى إلا أن يذكرنا بضحايا تخاذلنا، فيعيد علينا حكايته، ويستخرج لنا من قبور الذاكرة تلك الأرواح التي لم يستطع الوقت ولا تراب القبور أن يصمت أناتها المطالبة بالقصاص وبالعدل.
كثيرة هي الحكايات التي أعادها لنا التاريخ في الأيام القليلة الماضية، لا أعلم لماذا؟! هل لأنه يريد منا أن نستفيق؟ أم لأنه يئس منا فيرينا عارنا حتى إذا نزل علينا غضب الله لا نستغرب، ونعلم أنه القصاص الذي أهملناه، وأن دعوات مظلومي الأمس تضامنت مع دعوات مظلومي اليوم، فجاء وقت الحساب.
فمن أشهر ليست بالبعيدة، أعاد لنا التاريخ أنات ضحايا دنشواي بشباب عرب شركس، ثم أخرجت لنا أرض سيناء من بين رمالها رفات عبد الحميد محمد، أحد جنود مصر الذين اغتالهم الكره الصهيوني بدم بارد في حرب الاستنزاف، ليذكرنا أن هناك ثأرًا لنا عندهم وليس سلامًا يستمد دفئه من حرقة قلوب أمهات، ودموع أطفال يتموا، وزوجات ثكلى.
 أرض يبيعها من لا يملك لمن لا يستحق، فأرض سيناء هي أكثر أرض على وجه الكوكب دفع شباب دماءهم ثمنًا لها، فكم حرب دارت على تلك الأرض قديمًا أو في تاريخنا الحديث.
فعبد الحميد وآلاف مثله قد دفعوا ثمن تلك الأرض من دمائهم وأعمارهم، فلا يحق لأحد الآن بيعها تحت أي مسمى.
ولما فشل الدم في أن يثير حفيظة تلك الذاكرة العقيمة، ويحركها من ثباتها، حاول التاريخ معنا مرة أخرى وربما أخيرة، فاستصرخنا بأعراض الفتيات، فلربما ما زلنا نملك بعض الكرامة والنخوة كي نثور للعرض.
إنها زبيدة. زبيدة التي أبت أن تغيب فأتت لنا عبر الزمن تحمل قهر عار أجبرها عليه الصفوة من رجال الدين والأعمال بزمانها، أتت لنا بوجه جميل آخر، وبالاسم نفسه ذاته وذاك العار نفسه، تستصرخنا أن نقتص لها من ساري عسكر الفرنسيس، ولكن هذه المرة من ساري عسكر مصر.
بداية حكاية زبيدة لم تبدأ من الآن ولكن من أواخر أيام الحملة الفرنسية، نعم فقبل زبيدة فتاة الـBBC كانت هناك زبيدة أخرى.
هي زبيدة محمد البواب الميزوني المعروفة (بغادة رشيد) هي جميلة جميلات رشيد أو مصر كلها بوقتها، الطفلة ذات الثمانية عشر ربيعًا التي بيعت لمينو ساري عسكر الفرنسيس بعقد إشهار إسلام كان كل الحاضرين يعلمون يقينًا أنه إسلام كاذب، وبعقد زواج باطل لأن ما بني على باطل فهو باطل.
فقد اغتصبت زبيدة الميزوني من ساري عسكر الفرنسيس بمباركة رجال الدين الذين حضروا عقد بيعها حينما دخل المحتل الفرنسي وجلس، ووقف من حوله كل من السيد أحمد البدوي نقيب الأشراف – وأئمة المذاهب الثلاثة‏‏: السيد أحمد الخضري المفتي الشافعي والشيخ محمد صديق النايب المفتي الحنبلي والسيد محمد عز النايب المفتي المالكي‏، وفي الصف الثاني جلس بعض السادة الذين يعدون صفوة المجتمع. ومن خلف الجنرال مينو وقف بسلاحهم ستة من الجنود الفرنسيين.
هكذا وتحت ستار صمت كالموت يبيح رجال مصر زواج إحدى فتياتهم من المحتل، في نفس الوقت الذي كانوا يرون فيه أن العمل مع المحتل خيانة!
ولم تكتفِ صفوة مصر بأن يسلموا الفتاة، بل أرادوا أن يخفوا عارهم بعار ألصقوه بالصغيرة، التي حتى يومنا هذا لا نعرف ما نهايتها فقد ألفوا لها الحكايات لتكون هي صاحبة الإثم.
– فجعل منها علي الجارم مؤلف غادة رشيد، تلك الفتاة الفاتنة الراكدة خلف نبوءة أن تكون سيدة مصر الأولى لذا ارتمت بأحضان المحتل الذي تمتلئ يداه هو وقومه بدماء ثلث سكان القاهرة الذين قتلوا لإخماد ثورتهم.
– وجعل منها رفاعة الطهطاوي في كتابه تخليص الإبريز غانية قذفتها الحاجة للقمة العيش بعد موت مينو وطفلها الأول سليمان واختفاء طفلها الثاني أن تحترف البغاء وتنتصر رغم أنه قال بنفس الكتاب إنها حاربت زوجها لأنه أراد أن يعمد طفلهم الثاني قبل أن يخطفه منها ويختفي. ‏
– ومنهم من قال بعودتها إلى بلدها وماتت ببيت أبيها بعيدًا عن العيون.
كل تلك الروايات سردوها وأفاضوا بها حتى ننسى من المجرم الذي باع عرض الصبية لساري عسكر فرنسا.
تدور الأيام وتأتينا زبيدة جديدة اغتصبها ساري عسكر مصر، ليخرج علينا صفوة هذا الزمان، لينهشوا عرض الصبية ولكن بطريقة أكثر وحشية، بأن يأتوا بالضحية نفسها لتخرج على الملأ تخبر الجميع كذب قصة خطفها واغتصابها.
بل وينكل بأمها لأنها فضحت أفعال ساري عسكر مصر بفتيات مصر، ويتهمونها بالاستقواء بالخارج. أي قوة تلك التي تملكها أم ترى ابنتها ضحية مدرجة بدماء عرضها أمام الملايين من رجال وطنها ولا نصير لها.
 ظهرت زبيدة بوجه غير الوجه ونظرة عيون خائفة تفضح كذب الحكاية التي ألفها إعلام العار ليداري سوءة نظام لم يترك للشعب مالًا أو طعامًا أو حتى عرضًا يصان.
هكذا تضافرت القوة العسكرية مع ميديا عمياء لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم إلا بأمر عسكري لم يرحم ضعف صغيرة اغتصبت ولا كسرة قلب أم على ابنتها.
لم تنجح كل حيل عمرو أديب في إخفاء الخوف من عيون زبيدة، الذي أقر واعترف بما عجز لسانها عن قوله، لإنقاذ أمها من مصيرها من اعتقال وانتهاك، هذا ليس حال زبيدة وحدها بل حال وطن كامل اغتصب وتخرج الميديا صبيانها يتحدثون نيابة عن شعب اعتقل واغتصب وقتل يصفون روعة ما نحياه من حرية وأمن ورخاء.
ارقدي زبيدة الميزوني بقبرك المجهول فحال فتياتنا ليس أحسن حالًا منك، وحال رجالنا ليس أفضل حالًا من رجال زمانك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق