الخميس، 7 يونيو 2018

برفقة القرآن: تفاصيل رحلة «محمد الراوي» في مقاومة الظلم

برفقة القرآن: تفاصيل رحلة «محمد الراوي» في مقاومة الظلم
الشيخ الراحل محمد الراوي

"ما وصلنا إليه يوجب أن نراجع أنفسنا في صدق لا رياء فيه ولا نفاق؛ وأن نقول لأنفسنا جميعًا من لا يستطيع أن  يقوم بالأمانة في أي مكان فلينصرف؛ سواء كان حاكمًا أو محكومًا، لأن الأمر لا يحتمل إلا الجد ولا يتحمل إلا          بصدق"                                                              
بتلك الكلمات انتقد الشيخ الدكتور محمد الراوي حال الأمة
اشتهر الدكتور «محمد الراوي»، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، بقول كلمة الحق والصدع بها في وجه الحكام والمحكومين، وبدفاعه عن الأزهر واتباعه المنهج الوسطي الذي لا يُشدد على الناس ولا يتهاون في حقوقهم، حيث نادى دومًا وأبدًا بقوته المعهودة بضرورة إقامة العدل في الناس.

حياة الراوي من ريفا إلى الدعوة الإسلامية

ولد محمد الراوي في قرية «ريفا» بمحافظة أسيوط أول فبراير 1928م. درس وتخرج الراوي في جامعة الأزهر الشريف، حيث حفظ القرآن في سن مبكرة بالقرية في الوقت الذي كانت فيه المعاهد الأزهرية لا تقبل الطالب في السنة الأولى إلا بحفظ القرآن الكريم كله؛ وبعد الانتهاء من الدارسة في معهد أسيوط تقدم إلى كلية أصول الدين بالقاهرة، وحصل منها على الشهادة العالية، ومن ثم الشهادة العالمية مع تخصص التدريس من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر عام 1956م.
عمل بعد تخرجه بقسم الدعوة في وزارة الأوقاف – ثم أصبح مفتشًا عامًّا في مراقبة الشئون الدينية، بعدها نُقل إلى مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة وعمل بالمكتب الفني بالمجمع. وابتعث الراوي من قبل الأزهر الشريف إلى نيجيريا لتدريس اللغة العربية وعلوم القرآن.
طُلب لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وانتقل إليها بداية من العام الدراسي 1390-1391هـ، واستمر بها مدة تزيد على خمس وعشرين سنة عمل خلالها في كلية اللغة العربية مدرسًا للتفسير والحديث، وفي كلية العلوم الاجتماعية. كما ساهم في قيام كلية أصول الدين، وعمل بها أستاذًا للقرآن وعلومه ورئيسًا لقسم القرآن أكثر من ثلاثة عشر عامًا، وساهم في إنشاء المعهد العالي للدعوة الإسلامية.
وتوفي الراوي عن عمر ناهز 89 عامًا في 2 يونيو 2017، وسط حزن طلابه وزملائه من الأزهر ومن كان يؤمن بأفكاره ويسعى في تطبيقها، ونعاه الأزهر في بيان قائلًا: «التاريخ سيظل يذكر فقيد الأزهر والأمة بعلمه وفكره الوسطي في بيان سماحة الإسلام، وجهوده الدعوية على كل المستويات، ومصنفاته ومحاضراته التي أفاد منها طلاب العلم».

مواقفه من الدولة والحكام


ان الراوي من القلة التي انتقدت الحكام علنًا بغير مهابة ولا خوف، فيأتي موقفه من عبدالناصر وشهادته لما رآه في السجن الحربي كشهاة على واقع الظلم الذي عاناه المصريون في تلك الحقبة الزمنية، حيث  اُعْتُقِل بشكل عشوائي بعد تخرجه في الجامعة بعام واحد عندما كان يقيم مع خاله أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين.
ويروي الراوي وقوف اللواء حمزة البسيوني، أحد الضباط الأحرار، أمام الكل في السجن الحربي، وتكويمه أوراق المصحف وحرقها حتى يتوقفوا عن «الزن»، حسب ما أشار الراوي.
كما انتقد النظام في حقبة حكم مبارك وطالب العلماء في وقته أن:
تخاطب الناس والمتجبرين بدينها وبما أنزل الله وأن نبلغ ديننا بالحكمة.
كما انتقد ضياع مدخرات الأمة وذهابها للعدو لكي نرضيه على حساب الوطن.
وساند الراوي الثورة ودافع عن الدماء التي سفكت، واعتبر أن تلك حدود الله التي لا تقبل مجاملة أو مداهنة، واعتبر الثورة فعلًا نقيًا نديًا عظيمًا، وأن شبابها لم يقتلوا أحدًا ولم يسيئوا لأحد. ونصح من يريد أن يتوب من القتل بأن يجود بنفسه في سبيل التوبة. كما وصف الإنسانية بأنها تعاني من ظلم والتفرقة في شتى بقاع الأرض وغياب العدالة، وأن الإنسانية تنتظر منا أنه عندما تستجير بنا فتجدنا نحن أمة الإسلام.
كما كان الراوي دائم انتقاد غياب العدل في كل بقاع الأرض، خاصة بلاد المسلمين، كذلك أحكام مجلس الأمن باعتبارها نتاج من يملك القوة، فاهتم بالحديث الدائم عن ضرورة تعليم الناس حقائق الأمور التي ترسخ مبادئ الإنسانية لإقامة العدل بين الناس.

1. ربط الراوي القرآن الكريم بالواقع المعاصر

اهتم الشيخ بالقرآن الكريم واعتنى به عناية خاصة، فكان له حال فريدة معه ليصبح القرآن المرتكز الأول لأفكاره، فعمل أستاذًا للتفسير، وكان شديد الربط بين آيات الله وبين الواقع، وضرورة تطبيقه.
كما عمل مقدمة للمصحف الوثائقي الذي جمعته إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة، فجمع بين القراء القدامى ووصل بينهم في مصحف متكامل بلا انقطاع، واعتاد إلقاء المحاضرات العامة في بيان هداية القرآن الكريم ومقاصده لمدة خمس سنوات في نيجيريا، فحمل على عاتقه مهمة إيصال آيات الله ومقاصدها الحقة إلى كل المسلمين، محاولًا دمجها مع الحياة اليومية.
وخلال إقامته في نيجيريا قال:
لقد كنت أسمع صوت الإنجيل يدوي من وسائل الإعلام في أفريقيا. فهل من غيور على الإسلام يُسمع الناس جميعًا صوت القرآن؟
فما كانت إلا أيام قلائل، حيث قام الملك فيصل بإنشاء إذاعة للقرآن الكريم التي امتد نفعها في كل مكان، ولم تنقطع صلة الشيخ بها خلال فترة إقامته في المملكة العربية السعودية.
فكانت جهوده الدعوية تهدف لخدمة كتاب الله فهمًا وتفسيرًا وبيانًا، فحفظ القرآن في سن مبكرة جدًّا، ودعا المسلمين للعناية به تلاوةً وحفظًا، والتمسك بالقرآن كمنهج علمًا وعملًا. ومن خلال فهمه العميق للقرآن وارتباطه به وتوثيق عراه في قلبه تكون المرتكز الثاني لأفكار الراوي وهو مقاومة الظلم.

2. مقاومته الظلم والصدع بالحق

فكان ينصر الأمة أينما حلت بها نازلة، فينكر على حكامها، ويدعو عموم الأمة لنصرة قضاياها، كما كان دائم الذكر أن على الأمة أن تتمسك بوحدتها، وأن عليها أن تتحد، وأن على الحكام أن يحققوا العدل في رعاياهم كما أمرهم الإسلام، وكان هذا ديدنه لا يمل منه ما دام الظلم واقعًا على هذه الأمة.
فكانت القضية الرئيسة التي تشغل بال الأمة في رأيه؛ قضية تفرق الأمة وضعفها، مما أدى إلى ضياع فلسطين والاعتداء الأثيم المستمر عليها أمام سمع وبصر العالم، ولم يتحرك ساكن لرد العدوان في الوقت التي صمتت فيه الألسن وصمت الآذان، فلا تسمع صراخ أطفال غزة والصواريخ تهوي عليهم كالأمطار.
وفي وقت صمت فيه علماء الأزهر صمتًا مشينًا في تلك الحرب على غزة كمجاراة للسياسات العامة للدولة، وحفاظًا على مناصبهم التي قد يفقدونها بسبب مواقفهم المناهضة لسياسة الدولة، علا صوت الشيخ الراوي بدعم المقاومة وحث العلماء على مساندتها.
وقال إن:
المقاومة شرف الأمة وما حدث في غزة يؤكد أن الأمة أصيبت بالغُثَائية والفشل وذهاب الرأي، وأن واقع المسلمين في تفرقهم وتفريطهم هو سبب هزائمهم، مطالبًا الأمة بضرورة التوحد والوحدة، ورص الصفوف لتكون على قلب رجل واحد، لنكون أهلًا لأن يمدنا الله بنصره وتأييده

3. ما يجب على الأمة حتى تنهض

جاء المرتكز الثالث الذي تُبنى عليه أفكار الشيخ محمد الراوي ليكون نهضة الأمة، فخاطب العلماء والحكام والأمة بأكملها، ووضح لكل منهم الدور الذي ينبغي عليه. فكان يرى أن:
على جميع العلماء أن يروا في مقدمة الصفوف جهادًا وصدق كلمة ووفاءً لله في نجدة المظلوم والأخذ على يد الظالم، وألا تكون الفتاوى الجزئية في أمور فرعية يتسع المجال فيها لخلاف الآراء، بل يجب أن تكون الفتاوى متوجهة بعزم أكيد إلى جمع الكلمة للجهاد الواسع في كل ميدان دون تردد، حتى نرفع ما أريد لتصوير الجهاد بالإرهاب، مع أنه لمصلحة الإنسان حيث كان.
فنحن مع المظلوم ولو كان من غيرنا ونحن على الظالم ولو كان منا، عملًا بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا فقال رجل: يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره».
بينما خاطب الأمة بأهمية أن تكون في توادها وتعاطفها كمثل الجسد الواحد، قائلًا: «وإن الأمر الواقع يحتاج لتغير وتغيير، تغير بالأنفس وتغيير ما يجب تغييره لإصلاح هذه الأمة، ولابد أن يطول هذا التغيير الأفراد والمؤسسات».
وكان يرى أن: «سنن الله، ونحن جميعًا نعلمها وندركها، لا تتجاهل أحدًا ولا تتبدل ولا تتحول، وتطالب الجميع بالتغيير حتى يغير الله حالنا من الهزيمة إلى النصر بإذن الله». وخاطب الحكام قائلًا:
وأقول لحكام الأمة لابد من الإسراع إلى التعاون والتضافر والتماسك، وكفانا أن نقدم للعدو نصرًا بفشلنا، أرجوكم جميعًا، تناسوا خلافاتكم ومشاكلكم، ودعوا التمزق الذي يمنحهم نصرًا سهلًا.
هكذا ارتكز وتشكل فكر الدكتور محمد الراوي -رحمه الله- بفضل القرآن وبفضل تعمقه فيه تلاوة وتفسيرًا ودعوة له، ومن أشهر مؤلفاته «الدعوة الإسلامية دعوة عالمية» و«القرآن والإنسان» و«منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله».
فكان القرآن رفيقًا للراوي الذي شهد جنازته الآلاف من الناس، وكان من أشد الناس غيرة عندما تُنتهك حرمات الله، وأول الصادعين بالحق عندما يحل الظلم بالأمة ويتجبر حكامها، وإذا ما حلت بالأمة نازلة كان أول الباحثين عن حل لتلك النازلة بما يتوافق مع كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق