الجمعة، 1 يونيو 2018

دروس وعبر من فتح مكّة

دروس وعبر من فتح مكّة

د. علي الصلابي
مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي

إنَّ حركة النَّبيِّ (ص) في بناء الدَّولة، وتربية المجتمع، وإرسال السَّرايا، وخروجه في الغزوات تعلِّمنا كيفيَّة التَّعامل مع سنَّة الأخذ بالأسباب، سواءً كانت تلك الأسباب مادِّيَّة أو معنويَّةً، ففي غزوة الفتح نلاحظ هذه السُّنَّة واضحةً في هديه (ص)، فعندما قرَّر (ص) السَّير لفتح مكة؛ حرص على كتمان هذا الأمر حتَّى لا يصل الخبر إلى قريش، فتعد العدَّة لمجابهته، وتصدُّه قبل أن يبدأ في تنفيذ هدفه.

ارتكبت قريش خطأً فادحاً عندما أعانت حلفاءها بني بكرٍ على خُزاعة حليفة المسلمين بالخيل، والسِّلاح، والرِّجال، وهجم بنو بكرٍ، وحلفاؤهم على قبيلة خُزاعة عند ماءٍ يقال له: الوَتير، وقتلوا أكثر من عشرين من رجالها، ولمَّا لجأت خُزاعة إلى الحرم الآمن، ولم تكن متجهِّزةً للقتال، لتمنع بني بكرٍ منه؛ قالت لقائدهم: يا نوفل! إنَّا قد دخلنا الحرم، إلهك، إلهك! فقال نوفل: لا إله اليوم، يا بني بكر! أصيبوا ثأركم، عندئذٍ خرج عمرو بن سالم الخُزاعيُّ في أربعين من خُزاعة، حتَّى قدموا على رسول الله (ص) في المدينة، وأخبروه بما كان من بني بكرٍ، وبمن أصيب منهم، وبمناصرة قريشٍ بني بكرٍ عليهم، ووقف عمرو بن سالم على رسول الله (ص) وهو جالسٌ في المسجد بين ظهراني النَّاس، فقال:

يَا رَبِّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدا          حِلْفَ أَبِيْنَا وأَبِيْهِ الأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُم وُلْداً، وَكُنَّا وَالِدا             ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يدا
فانْصُرْ هَدَاكَ الله نَصْراً أَعْتَدَا      وادْعُ عِبَادَ الله يأْتُوا مَدَدَا
فِيْهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدا        إِنْ سِيْم خَسْفاً وَجْهُهُ تَرَبَّدَا
فِيْ فَيْلَقٍ كالبَحْرِ يَجْرِي مُزبِدَا     إنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا
ونقَضُوا مِيْثَاقَك المُؤَكَّدا      وجَعَلُوا لي في (كَدَاءٍ) رُصَّدا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أدْعُو أحدَا     وَهُمْ أَذَلُّ وأَقَلُّ عَدَدَا
هُمْ بَـيَّـتُونَا بالوَتِيْرِ هُجَّدَا      وقَتَلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا

فقال النبي (ص): «نُصرتَ يا عمرو بن سالم! لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب!» ولمَّا عرَض السَّحاب مِنَ السَّماء؛ قال: «إنَّ هذه السَّحابة لتستهلُّ بنصر بني كعبٍ».

شرع النبي (ص) في الأخذ بالأسباب الآتية لفتح مكة ولتحقيق مبدأ المباغتة:
الَّذي يساهم في إسقاط فروض الكفاية عن الأمَّـة يستحقُّ التَّقديـر، والاحترام، وإن بدرت منـه بعـض الأخطاء، هذا فيما إذا كان ما صدر من هؤلاء خطـأً محضاً، وزلَّـة قدمٍ
1- أنَّه كتم أمره حتَّى على أقرب النَّاس إليه:
فقد أخذ النَّبيُّ (ص) بمبدأ السِّرِّيَّة المطلقة، والكتمان الشَّديد حتَّى عن أقرب النَّاس إليه، وهو أبو بكر رضي الله عنه أقربُ أصحابه إلى نفسه، وزوجتُه عائشة رضي الله عنها أحبُّ نسائه إليه، فلم يعرف أحدٌ شيئاً عن أهدافه الحقيقية، ولا اتِّجاه حركته، ولا العدوِّ الَّذي ينوي قتاله، بدليل أنَّ أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه عندما سأل ابنته عائشة رضي الله عنها عن مَقْصَدِ الرسول (ص) قالت له: ما سمَّى لنا شيئاً، وكانت أحياناً تصمت، وكلا الأمرين يدلاَّن على أنَّها لم تعلم شيئاً عن مقاصده (ص). ويستنبط من هذا المنهج النبوي الحكيم أنَّه ينبغي للقادة العسكريين أن يخفوا خططهم عن زوجاتهم؛ لأنهنَّ ربما يُذِعْنَ شيئاً من هذه الأسرار عن حسن نيَّةٍ، فتتناقلها الألسن حتَّى تصير سبباً في حدوث كارثةٍ عظيمةٍ.

2- أنه بعث سريَّةً بقيادة أبي قتادة إلى بطن إِضَم:
بعث النَّبيُّ (ص) قبل مسيره إلى مكَّة سَرِيَّةً مكوَّنةً من ثمانية رجال، وذلك لإسدال السِّتار على نياته الحقيقيَّة، وفي ذلك يقول ابن سعد: «لمَّا همَّ رسول الله (ص) بغزو أهل مكَّة بعث أبا قتادة بن ربْعِي في ثمانية نفرٍ سَرِيَّةً إلى بطن إِضَم، لِيَظُنَّ الظَّانُّ: أنَّ رسول الله (ص) توجَّه إلى تلك النَّاحية، فمضوا، ولم يلقوا جمعاً، فانصرفوا حتَّى انتهوا إلى ذي خُشُب، فبلغهم: أنَّ رسول الله (ص) قد توجَّه إلى مكَّة، فأخذوا على (بيبن) حتَّى لقُوا النَّبيَّ (ص) بالسُّقيا». وهذا منهجٌ نبويٌّ حكيمٌ في توجيه القادة من بعده إلى وجوب أخذ الحذر، وسلوك ما يمكن من أساليب التَّضليل على الأعداء والإيهام، الَّتي من شأنها صرف أنظار النَّاس عن معرفة مقاصد الجيوش الإسلاميَّة الَّتي تخرج من أجل الجهاد في سبيل الله، حتى تُحقِّق أهدافها، وتَسْلَم من كيد أعدائها.

3- أنَّه بعث العيون لمنع وصول المعلومات إلى الأعداء:
بثَّ (ص) رجال استخبارات الدَّولة الإسلاميَّة داخل المدينة، وخارجها؛ حتَّى لا تنتقلَ أخبارُه إلى قريشٍ، وأخذ رسول الله (ص) بالأنقاب([1])، فكان عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يطوف على الأنقاب قيماً بهم، فيقول: لا تَدَعُوا أحداً يمرُّ بكم تنكرونه إلا رددتموه، إلا مَنْ سلك إلى مكَّة فإنَّه يُتَحفَّظ به، ويُسأل عنه، أو ناحية مكَّة. إنَّ جَمْعَ المعلومات سلاحٌ ذو حدَّين، وقد استفاد الرَّسول (ص) من حدِّه النافع لصالح المسلمين، وأبطل مفعول الحدِّ الآخر باتباعه السِّرِّيَّة، واتخاذها أساساً لتحرُّكاته، واستعداداته؛ ليحرم عدوه من الحصول على المعلومات الَّتي تفيده في الاستعداد لمجابهة هذا الجيش بالقوَّة المناسبة.

4- دعاؤه (ص) بأخذ العيون والأخبار عن قريش:
وبعد أن أخذ رسول الله (ص) بالأسباب البشريَّة الَّتي في استطاعته؛ توجَّه إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بالدُّعاء والتَّضرُّع قائلاً: «اللَّهُمَّ! خذ على أسماعهم، وأبصارهم فلا يَرَوننا إلا بغتةً، ولا يسمعون بنا إلا فجأة» [البيهقي في الدلائل (5/11)]([2]). وهذا شأن النَّبيِّ (ص) في أموره يأخذ بجميع الأسباب البشريَّة، ولا ينسى التَّضرُّع، والدُّعاء لربِّ البريَّة؛ ليستمدَّ منه التَّوفيق والسَّداد.


دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وهو يقرأ سورة الفتح. مستشعراً نعمة الفتح، وغفران الذُّنوب، وإفاضة النَّصر العزيز

5-  إحباط محاولة تجسُّس حاطبٍ لصالح قريش:
عندما أكمل النَّبيُّ (ص) استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكَّة يخبرهم فيه نبأ تحرك النَّبيِّ (ص) إليهم، ولكنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أطلع نبيَّه (ص) عن طريق الوحي على هذه الرِّسالة، فقضى (ص) على هذه المحاولة وهي في مهدها، فأرسل النَّبيُّ (ص) عليّاً، والزُّبير، والمقداد فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخٍ على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، وهدَّدوها أن يفتِّشوها إن لم تُخرِج الكتاب؛ فسلَّمته لهم، ثمَّ استدعى حاطباً رضي الله عنه للتَّحقيق، فقال: يا رسول الله! لا تعجل عليَّ، إنِّي كنت امرأً مُلصَقاً في قريشٍ ـ يقول: كنت حليفاً ـ ولم أكن من أنفُسِها، وكان مَنْ معك من المهاجرين مَنْ لهم قراباتٌ يحمون بها أهليهم، وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسب فيهم أن أتَّخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله (ص): «أما إنَّه قد صدقكم».

وهذا منهجٌ نبويٌّ حكيمٌ، فلم ينظر النَّبيُّ (ص) إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب، وإن كانت كبيرةً، وإنَّما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله تعالى، وإعزاز دينه، فوجد: أنَّه قد شهد بدراً، وفي هذا توجيهٌ للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرةً متكاملـةً، وذلك بأن ينظروا فيما قدَّموه لأمَّتهم من أعمالٍ صالحةٍ في مجال الدَّعوة، والجهاد، والعلم، والتَّربية، فإنَّ الَّذي يساهم في إسقاط فروض الكفاية عن الأمَّـة يستحقُّ التَّقديـر، والاحترام، وإن بدرت منـه بعـض الأخطاء، هذا فيما إذا كان ما صدر من هؤلاء خطـأً محضاً، وزلَّـة قدمٍ، فكيف إذا كان ما صدر منهم رأياً علميّاً ناتجاً عن الاجتهاد؛ وهم أهلٌ لذلك؟!

دخولٌ خاشعٌ متواضعٌ، لا دخول فاتحٍ متعالٍ:
دخل رسول الله (ص) يوم فتح مكة وعليه عمامةٌ سوداءُ بغير إحرامٍ، وهو واضعٌ رأسه تواضعاً لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتَّى إنَّ ذقنه ليكاد يَمَسُّ واسطة الرَّحل. ودخل وهو يقرأ سورة الفتح. مستشعراً نعمة الفتح، وغفران الذُّنوب، وإفاضة النَّصر العزيز([3])، وعندما دخل مكَّة فاتحاً ـ وهي قلبُ جزيرة العرب، ومركزُها الرُّوحيُّ، والسِّياسيُّ ـ رفعَ كلَّ شعارٍ من شعائر العدل والمساواة، والتَّواضع، والخضوع، فأردف أسامة بن زيدٍ، وهو ابن مولى رسول الله (ص)، ولم يردف أحداً من أبناء بني هاشم، وأبناء أشراف قريشٍ، وهم كثير.
ـــــــــــــــــــ
([1]) الأنقاب: جمع نقب، وهو كالعريف على القوم.
([2]) انظر: البداية والنِّهاية (4/282)، ومحمَّد (ص) (غزوة فتح مكة)، لمحمَّد رضا.
([3]) انظر: صور وعبر من الجهاد النَّبوي في المدينة، ص 396.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق