الأحد، 17 يونيو 2018

الإيمان بالقدر.. ثمار وآثار طيبة (2)

الإيمان بالقدر.. ثمار وآثار طيبة (2)

د. علي محمد الصلابي
مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي

الإيمان بالقدر.. ثمار وآثار طيبة (1)

في حديثنا عن مكانة القضاء والقدر وثمراته وآثاره في حياة الإنسان المؤمن، وفي عقله ونفسه ووجدانه وإدراته، وفي حياته بصفة عامة نجد أن أهم ثمار الإيمان بالقدر وآثاره تتمثل بــ:

8 ـ المؤمن لا يعيش قلقًا بين "لو" و"ليت":
إن من أهم عوامل القلق الذي يفقد الإنسان سكينة النفس وأمنها ورضاها هو تحسره على الماضي وسخطه على الحاضر وخوفه من المستقبل. وإن بعض الناس تنزل به النازلة من مصائب الدهر، فيظل شهوراً وأعواماً آلامها، ويستعيد ذكرياتها القائمة، متحسرًا تارة، متمنيًا أخرى، شعاره: ليتني فعلت، وليتني تركت، وأني فعلت كذا لكان كذا. ولذا ينصح الأطباء والمرشدون الاجتماعيون، ورجال التربية، ورجال العمل، أن ينسى الإنسان آلام أمسه، ويعيش في واقع يومه، فإن الماضي بعد أن ولَّى لا يعود.

قد صور هذا المعنى أحد المحاضرين بإحدى الجامعات بأمريكا تصويراً بديعاً لطلبته حين سألهم: كم منكم مارس نشر الخشب؟ فرفع كثير من الطلبة .. أصابعهم، فعاد يسألهم: وكم منكم مارس نشر نشارة الخشب؟ فلم يرفع أحد منهم إصبعه، وعندئذ قال المحاضر: بالطبع لا يمكن لأحد أن ينشر نشارة الخشب، فهي منشورة فعلاً. وكذلك الحال مع الماضي: فعندما ينتابكم القلق لأمور حدثت في الماضي، فاعلموا أنكم تمارسون نشر النشارة!

نقل هذا التصوير "ديل كارينجي" في كتابه "دع القلق وأبدأ الحياة"، كما نقل قول بعضهم: لقد وجدت أن القلق على الماضي لا يجدي شيئاً تماماً، كما لا يجديك أن تطحن الطحين، ولا أن تنشر النشارة، وكل ما يجديك إياه القلق هو: أن يرسم التجاعيد على وجهك، أو يصيبك بقرحة في المعدة.

9 ـ الخوف والحذر من الله:
الإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سببًا في استقامة المسلم وخاصة في معاملته للآخرين، فحين يقصر في حقه أحد أو يسئ إليه، تجده يعفو ويصفح
فالمؤمن بالقدر على حذر من الله، قال تعالى: "فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" (الأعراف ، آية : 99). وقلوب العباد دائمة التقلب والتغير، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والفتن التي توجه سهامها إلى القلوب كثيرة، والمؤمن يحذر دائماً أن يأتيه ما يضله كما يخشى أن يختم له بخاتمة سيئة، وهذا لا يدفعه إلى التكاسل والخمول، بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة للاستقامة والإكثار من الصالحات ومجانبة المعاصي والموبقات، كما يبقى قلب العبد معلقاً بخالقه، يدعوه ويرجوه ويستعينه ويسأله الثبات على الحق، كما يسأله الرشد والسداد.

10 ـ الخلاص من الشرك:
لا يتم توحيد الله إلا لمن أقرَّ أن الله وحده الخالق لكل شئ في الكون، وأن إرادته ماضية في خلقه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل المعذبين بالقدر لم يوحدوا ربهم، ولم يعرفوه حق معرفته، والإيمان بالقدر مفرق طريق بين التوحيد والشرك، فالمؤمن بالقدر يُقرُّ بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد ومعبود واحد، ومن لم يؤمن هذا الإيمان فإنه يجعل من دون الله آلهة وأربابًا.

11 ـ الاستقامة:
إن الإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سببًا في استقامة المسلم وخاصة في معاملته للآخرين، فحين يقصر في حقه أحد أو يسئ إليه، أو يرد إحسانه بالإساءة أو ينال من عرضه بغير حق، تجده يعفو ويصفح، لأنه يعلم أن ذلك مقدر، وهذا إنما يحسن إذا كان في حق نفسه، أما في حق الله فلا يجوز العفو ولا التعلل بالقدر، لأن القدر إنما يحتج به في المصائب لا في المعايب.

والإيمان بالقدر يجعل الإنسان يمضي في حياته على منهج سواء لا تبطره النعمة، ولا تيئسه المصيبة، فهو يعلم أن كل ما أصابه من نعم وحسنات من الله، لا بذكائه وحسن تدبيره "وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ" (النحل، آية : 53). ولا يكون حاله حال قارون الذي بغى على قومه واستطال عليهم بما أعطاه الله من كنوز و أموال

الذي يؤمن بالقدر يحمل قلباً نظيفًا طاهرًا من الغل والحقد والحسد والضغينة لإخوانه، 
لأنه إن نظر إلى أخ من إخوانه ووجده في نعمة فهو يعلم يقينًا أن الذي أنعم عليه بهذا هو الله




12ـ القضاء على الأمراض التي تعصف بالمجتمعات:

الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات وتزرع الأحقاد بين المؤمنين، وذلك مثل رذيلة الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، لأنه هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك، وهو يعلم حين يحسد غيره إنما يعترض على المقدور. وهكذا فالمؤمن يسعى لعمل الخير، ويحب للناس ما يحب لنفسه، فإن وصل إلى ما يصبو إليه حمد الله وشكره على نعمه، وإن لم يصل إلى شيء من ذلك صبر ولم يجزع، ولم يحقد على غيره ممن نال من الفضل ما لم ينله، لأن الله هو الذي يقسم الارزاق فيعطي ويمنع وكل ذلك ابتلاء وامتحان منه سبحانه وتعالى ـ لخلقه.

قال ابن سيرين: ما حسدت أحدًا على شيء من أمور الدنيا، لأنه إن كان ـ أي هذا الرجل ـ من أهل الجنة، فكيف أحسده على شيء من أمر الدنيا وهو مصيره إلى الجنة، وإن كان ـ هذا الرجل ـ من أهل النار فكيف أحسده على شيء من أمور الدنيا، وهو يصير إلى النار.

فالذي يؤمن بالقدر يحمل قلباً نظيفًا طاهرًا من الغل والحقد والحسد والضغينة لإخوانه، لأنه إن نظر إلى أخ من إخوانه ووجده في نعمة فهو يعلم يقينًا أن الذي أنعم عليه بهذا هو الله، فهو يحب لأخيه النعمة ويتضرع إلى الله سبحانه وتعالى الذي رزق أخاه أن يرزقه بما رزق أخاه فهذه كلها أمراض القلب لا تداوى إلا بالإيمان بالله سبحانه وتعالى. والمؤمن بالقدر يعلم بأن الله يعطي ويمنع لحكمه، فإن من العباد من لا ينفعه إلا الغنى، ولو أفقره الله لأفسده ذلك، ومن العباد من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغناه الله لأفسده ذلك، ومن العباد من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمه الله لأفسده ذلك ومن العباد من لا يصلحه إلا المرض ولو صح  لأفسده ذلك فلا يوجد شيء في الكون بدون حكمة وبغير حكمة، فالله هو الحكيم الخبير، سواء علمنا الحكمة أم جهلناها، فالله جل وعلا يقدر بحكمة وعلم.

13ـ الاستعانة بالله:
ومن ثمار الإيمان بالقدر يعلم العبد يقيناً أن الأمر كله بيد الله خلقاً ومشيئة وتقديراً وإيجاداً، فالمستعان على حصول المراد هو الله وحده دون غيره، ولهذا فهو يستعين بالله على حصول مراده، ولأمر ما كانت سورة الفاتحة تقرأ في كل صلاة، بل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، كما جاء في الحديث الشريف وفي هذه السورة الكريمة، قوله تعالى:"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة، آية : 5)، فإذا استعان بالله وباشر السبب وحصل المقصود فهذا من فضل الله وإن لم يحصل المقصود لم ييأس المسلم فقد يكون في تأخير حصول المطلوب خير لا تعرف وجهه، فالله يعلم ونحن لا نعلم، وما نعلمه من حكمته تعالى شيء قليل للغاية بالنسبة لما لا نعرفه من هذه الحكمة وعليه ـ أي على المسلم ـ أن يجدد السعي مستعيناً بالله ولا يعجز عن ذلك ولا يقبل لو إني فعلت كذا كان كذا، فإن هذا الكلام لا يفيد شيئاً وإنما يفتح باباً لعبث الشيطان.

14ـ الاعتماد على الله وحده:
الإيمان بالقدر يجعل موقف صاحبه عند فعل الحسنات موقفًا صحيحًا سليمًا تترتب عليه طهارة قلبه من أرجاس كثيرة وبالتالي يستقيم سلوكه وتزكوا اأخلاقه
صاحب الإيمان الصحيح بالقدر يباشر الاسباب بيده ولكن اعتماده على الله وحده لا على السبب، وهكذا كان حال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اختفى صلى الله عليه وسلم في الغار وهذا منه صلى الله عليه وسلم مباشرة لسبب الخلاص من المشركين ولكن ما كان اعتماده في الخلاص من المشركين على هذا السبب ـ ولا على غيره من الأسباب ـ ولكن كان اعتماده على الله وحده، قال تعالى:"ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا" (التوبة، آية : 40).

فثقة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وسكينته وأمله في الخلاص، إنما كان ذلك بسبب تلك المعية الخاصة المتأنية من اعتماده على الله لا بسبب الاختفاء بالغار، وفي معركة بدر بعد أن نظم صلى الله عليه وسلم الجيش وباشر الاسباب المادية للمعركة رجع إلى العريش المنصوب له يدعو ربه ويكثر من الدعاء لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن النصر بيد الله والاعتماد في تحصيله يجب أن يكون على الله لا على الأسباب التي باشرها وإن كان لابد من مباشرتها، وهذا هو التوكل الصحيح الذي هو من ثمرات الإيمان الصحيح بالقدر، ومن ثمرات التوكل كفاية الله "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" (الطلاق، آية : 3).

15ـ الاعتراف بفضل الله:
الإيمان بالقدر يجعل موقف صاحبه عند فعل الحسنات موقفًا صحيحًا سليمًا تترتب عليه طهارة قلبه من أرجاس كثيرة وبالتالي يستقيم سلوكه وتزكوا أخلاقه، وتفصيل ذلك أن صاحب الإيمان بالقدر يشاهد القدر ويستحضره في ذهنه عند فعل الحسنات وعمل الصالحات وهذه المشاهدة تثمر في نفسه الاعتراف بأن ما صدر منه وهو بمحض فضل الله عليه ليس له فيه شيء، وهذا يؤدي بدوره إلى قمع نوازع الكبر والغرور والعجب بنفسه والمن على الناس ونحو ذلك من الأقذار القلبية، لأن هذه الأقذار إنما تكون في الإنسان لاعتقاده أن فيه من معاني الامتياز على غيره ما يدعوه إلى التكبر عليهم والعجب بنفسه والغرور ونحو ذلك، سواء كانت هذه المعاني أعمالاً صالحة أو عبادة أو فعل حسنات أو قوة أو علماً أو سلطاناً أو مالاً أو كثرة اتباع ونحو ذلك، فإذا شاهد القدر عند فعله الحسنات، أو عند حصول شيء مما ذكرنا في يده، وعلم أن ذلك كله من عند الله وحده وما حصل على يديه هو محض فضل الله عليه، زال منه العجب والكبر والغرور والمنة على الله وعلى الناس، وبالتالي تجره هذه المشاهدة وما يترتب عليها إلى حمد الله وشكره وهكذا يفعل المؤمنون.

المؤمن بالقدر يعلم علم اليقين أن العاقبة للمتقين وإن قدرة الله في ذلك نافذ لا محالة، 
فلا يدب اليأس إلى قلبه، لا يعرف إليه طريقًا مهما زادت ظلمة الباطل


16ـ الاستغناء بالخالق عن الخلق:
ومن ثمرات الإيمان بالقدر الاستغناء بالخالق عن المخلوق والحرص على رضى الله وحده ورجاؤه والخوف منه، والتوكل عليه والاستعانة به وتفويض الأمر إليه والانكسار بين يديه وتبليغ رسالات الله بدون وجل ولا تردد ولا خشية من أحد على وجه الأرض "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا" (الأحزاب، آية : 39).

فالسعيد الذي لا يعنيه إلا رضا الله، ولا يعنيه الشر إطلاقًا، لا يلتفت إلى الخلق، لأنه على يقين أن رزقه بيد الخالق، لا بيد الخلق وأن قلوب الخلق لا تقبل إليه بالحب والبغض إلا بتقدير الخالق، فهذا لا يعلق قلبه بالمخلوقين لا بثنائهم، لا ببغضهم، ولا بذمتهم، ولا بحمدهم، بل يعلق قلبه بربهم جل جلاله، فلا يعنيه إلا أن يقول: قال الله: قال رسوله بما يرضي الله سبحانه لا بما يُحصّلُ به رضا الناس، فمن قال لله لا يخشى في الله لومة لائم، بالحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، أسعده الله في الدنيا والآخرة.

17ـ الاعتراف بالذنب والمسارعة للمغفرة والتوبة:
وصاحب الإيمان الصحيح بالقدر يشاهد نفسه عند فعل السيئات وارتكاب المنهيات ولا يحتج بالقدر على عصيانه لأنه لا حجة لأحد فيه، كما بيّنا، وإنما يرجع إلى نفسه ليوبخها من كبوتها حالاً كما ينهض من الوحل، إذا وقع فيه ويعقد العزم على عدم العودة إلى الذنب، ويتوجه إلى الله بالإعتراف بالذنب بانكسار قلب، وبهذا كله علّمنا القرآن وضرب لنا الأمثال وقص علينا موقف انبيائه الكرام في مثل هذه الأحوال، قال تعالى عن نبيه آدم عليه السلام :"رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف، آية : 23). وقال تعالى عن موسى عليه السلام :"رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي" (القصص، آية : 16).  

في النهاية يمكن القول: إن المؤمن بالقدر يعلم علم اليقين أن العاقبة للمتقين وإن قدرة الله في ذلك نافذ لا محالة، فلا يدب اليأس إلى قلبه، لا يعرف إليه طريقًا مهما زادت ظلمة الباطل، وعزاؤه في ذلك علو الهمة والقناعة والسكينة والرضا بالواقع والعمل على النهوض به نحو بناء مجتمع سليم وقوي، ويكسب المرء بذلك سعادة الدنيا والآخرة.

المراجع:
1- أحمد القطان، شيخ الإسلام ابن تيمية: جهاده ودعوته، صـ101.
2- عبد الرحمن المحمود، الإيمان بالقضاء والقدر، صـ 454.
3- علي الصلابي، الإيمان بالقدر، دار ابن كثير، بيروت.
4- علي الصلابي، الوسطية في القرآن الكريم، صـ 344.
5- عمر الأشقر، القضاء والقدر، صـ 112.
6- القرضاوي، الإيمان بالقدر، صـ 88.
7- محمد إبراهيم الحمد، الإيمان بالقضاء والقدر، صـ 32.
8- محمد حسان، الإيمان بالقدر، صـ 250.
9- محمد قطب، ركائز الإيمان، صـ 426.
10- مرعي الحنبلي، الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، صـ 34.
11- النووي، شرح صحيح مسلم، 6/ 224 ـ 225.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق