الشعوب العربية بين الإكراه والرفض
لطالما كانت علاقة الحاكم بالمحكوم، تسير في اتجاه واحد، اتجاه لا يعترف إلا بمركزية القرار.. تلك العلاقة وقعت بين أحلام وتطلعات فقه الدعوة وشوائك وهموم فقه الدولة، فتقاطعت سبل المصائر في أبعادها الإنسانية، واختلطت على كثيرين فضائل ومساوئ الطرفين، ما أوجد الفكر المقاوم، فانحشر المجتمع بين لغة وشعارات المنابر التي تجيّش الألفاظ، وسياسات المصالح وتوازن القوى التي تسعى إلى الاستمرار وتأجيل الحوار، أو تفعيل ما يعرف بـ "حوار الطرشان".
إن حالة التأزم التي يعيشها الشرق الأوسط تدفعنا إلى أحداث متسارعة تقربنا من العالم الآخر تارة، وتفصلنا عن صيرورة الإنسان وحقوقه تارات كثيرة، حتى بتنا لا نعرف إلى أين نحن ماضون
لقد باتت حالة تمجيد الشخوص وتأثير الولاءات السمة البارزة في المشهد العربي برمته، فاختلطت مبادئ الوطن مع تقديس الزعماء، ما أدى إلى تغذية الانقسامات، ليكون المواطن بين مطرقة النظام وسندان المعارضة، وتحوّل الوطن إلى ساحة تصفية حسابات، وبث معتقدات تكرّس ثقافة الاستبداد التي أضعفت فرص التحول الديمقراطي، وأفقدت المجتمع قدرته وتوجهاته في بناء مؤسسات وطنية متماسكة.
وعلى مدار عقود من الزمان، أُغرقت المجتمعات العربية في سرديات التمجيد الرسمي إلى أن بلغ السيل الزبى، ووصل الحاكم إلى مراحل التقديس التي دفعته – وبتصرفات الرعية في الدائرة الضيقة – إلى أنه يرى ما لا يراه غيره، ويحق له ما لا يحق لغيره، وفق منطق القانون وملابسات التغيير التي تسيّر وفق البطانة المقتاتة على مصالح اللحظة.
تلك الحالة من فرض الولاءات تتحول تدريجيًّا من الإكراه إلى الرفض، ومن الخضوع إلى التحرر، ومن الجهل إلى المعرفة، وهذا يتضح في التغير البطيء في عقلية الشباب العربي، حيث إن عظمة تلك الشعارات لم تستطع كبح تطلعات الشباب نحو التفكير في الحرية والكرامة، وحتى إن كانت البدائل التي تدفع بهذا المتغير بعيدة المنال فإنها تبقى محركًا يتعاظم كلما زاد الإكراه بالولاء للنظم الحاكمة.
وها نحن نقترب من طي صفحة عام يأفل، وكتابة تاريخ جديد يشرق بآمالنا، إلا أن وطننا العربي الكبير يعيش بين تشظي الاستقرار والإصلاح المبعثر بين واقع الأزمات وشتات الفرص؛ فمع كل لحظة تتعاظم التحديات وتتشابك مفردات التوصيف، التي تنقلنا إلى صعوبة فهم ما يدور في المشهد السياسي والاقتصادي، الذي أصبح أشبه بلوحة فسيفساء مبعثرة، لا تتماسك فتظهر، ولا تتناثر فتدحر.
إن الدول ذات النفوذ والسيطرة تعمل -ومنذ عقود- على نظريات ونوايا تجزئة المجزأ، وتغيير جيوسياسي يعيد رسم خرائط جديدة للمنطقة، لذلك أصبح التقسيم الجغرافي والسياسي واقعًا ملموسًا في العراق وسوريا وليبيا واليمن
إن حالة التأزم التي يعيشها الشرق الأوسط تدفعنا إلى أحداث متسارعة تقربنا من العالم الآخر تارة، وتفصلنا عن صيرورة الإنسان وحقوقه تارات كثيرة، حتى بتنا لا نعرف إلى أين نحن ماضون وما هي هويتنا التي يجب أن نحافظ عليها؟ وهل نحن جزء من التاريخ والحضارة؟ أم نحن صنعة تتحرك في أيادٍ مجهولة، نكون فيها أقرب إلى مختبرات تجارب؟
وبحسب مجريات الأحداث؛ لا تلوح بارقة أمل لإحداث انفراجة واستقرار، بل يتعقد المشهد مع هبوب نسائم الحرية من تسلط الأنظمة، لأن ثمن التحرر باهظ ومعقد بحسب حساب الدول المسيطرة.
ففي سوريا، وبعد الأحداث الأخيرة، يتشكّل تضارب النفوذ مع تلاشي السيادة، ويستمر صراع القوى الدولية والإقليمية الذي يشير وفق المعطيات الأولى إلى تفكيك الوحدة السورية المشوهة، وتحويلها إلى مناطق نفوذ تتحكم فيها قوى خارجية: (روسيا، إيران ، تركيا، أميركا)، تهيمن وتعزز مشهد التجزئة لإنتاج مجتمع مشوه الولاء، تتعدد لديه مرجعيات السلطة والهوية بين الداخل والخارج، ليكون لإسرائيل نصيب الأسد في تنفيذ مخططاتها.
لكنْ هناك بصيص أمل آخر يدفعنا إلى الإيمان بانبعاث سوريا جديدة، تقوم على عزيمة الشعب الذي لا تقهره الشدائد، ولا تحطّمه عُنجهية الاستبداد، وتلك تحتاج إلى كثير من الممكنات السياسية والمراجعات الاقتصادية التي ستجعلة رئة الوطن العربي، ويستفيد من أخطاء الثورات العربية التي مُسخت في مهدها وشوّهت قبل أن تؤتي حصادها، وهذا الأمل نراه بعيدًا ويرونه قريبًا.
في الجانب الآخر، يعود ترامب من جديد وفق سياسة إعادة صياغة المشهد، وتشكيل دوافع السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، فكل شيء "سيئ" متوقع من قبل رجل يُعرف ببراغماتيته الحادة، التي ستكون المسار المهيمن في ترتيب قائمة التحالفات بما يخدم أميركا وإسرائيل، وتُضعف في المقابل بصيص الأمل والاستقرار "الهش" في الدول العربية الملتهبة، ما يجعله يُعمّق ويعيد الانقسامات الداخلية والإقليمية إلى الواجهة بعامل المال، لتكون هناك صفقات يدفع تبعاتها المواطن العربي.
وتأكيدًا على ما يحدث وفق النتائج؛ فإن الدول ذات النفوذ والسيطرة تعمل – ومنذ عقود – على نظريات ونوايا تجزئة المجزأ، وتغيير جيوسياسي يعيد رسم خرائط جديدة للمنطقة، لذلك أصبح التقسيم الجغرافي والسياسي واقعًا ملموسًا في العراق وسوريا وليبيا واليمن، ودول أخرى في القائمة تعيش حالة التشرذم الداخلي، وغليان الانقسامات الطائفية والعرقية، ليس بينها وبين إشعال الفتيل إلا مسافة يسيرة، لذلك فإن حراك المقاومة لا ينتهي حتى ولو تنوع الغزو وتعددت صنوفه.
إن الطريق نحو الإصلاح في الوطن العربي يحتاج إلى إرادة حقيقية، واعتراف بالأزمات المهددة لمبادئ التوافق، من خلال إيجاد مقاربة شاملة وواعية تراعي كافة الأبعاد، وتبتعد عن إثم الإنكار أو التبرير المبني على أنصاف الحقائق
واقع منطقة الخليج
في ظل تفاقم تلك الأزمات، هل منطقة الخليج ستكون في منأى عن مستوى تأثير تلك التجاذبات والصراعات؟ وهل الحدود النسبية في الاستقرار العام تعد نموذجًا قادرًا على تخطيها أو المساهمة في حلحلتها؟
إن التحولات السريعة التي تعتبر منطقة الخليج جزءًا منها، وربما – حسب تحليلات البعض – داعمة أو مولدة لها، تتطلب منها اتخاذ خطوات إصلاحية مستمرّة، تلبي التطلعات وتعزز من فكر شبابها، إذا ما سلمنا بأن المجتمعات الخليجية تعتبر مجتمعات فتية بارتفاع نسبة الشباب بين السكان، ما يتطلب الوقوف على إشكاليات ومطالبات فرص العمل وتوسيع الحريات، والتوجه نحو تنويع وإعادة هيكلة الاقتصاد وعدم الاعتماد الكلي على الثروات النفطية، خاصة بعد التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة، والتفكير في إيجاد أمن غذائي داخلي معزز للاحتياجات الداخلية.
وكان لبعض من دول الخليج دور في تأسيس سياسة خارجية متوازنة في خضم بؤرة الصراعات الدولية – لا سيما سلطنة عُمان ودولة قطر – ما أكسبها مكانة دولية مستقرة، تُمكّنها من توليد التوجهات الاستثمارية وبناء تحالفات إقليمية جديدة في سبيل تبادل المصالح بين الدول.
إن خطر الصراعات الإقليمية وتصاعد التوترات، خاصة في إطار برنامج إيران النووي، سيجعل دول الخليج عرضة لتداعيات ذلك الملف، ويؤثر بشكل كبير على أمن واستقرار المنطقة، لذا فإعادة الحسابات نحو التقارب تحتاج إلى استثمار التحالفات، وتعزيز الدور الخليجي في أن يكون طرفًا في المفاوضات المستقبلية للبرنامج النووي، والدفع بحالة الاستقرار السياسي التي تشهدها الحكومة الإيرانية الجديدة ضمن سياقاتها المتوازنة حتى اللحظة، هذا إلى جانب ضرورة الاستثمار في الأمن السيبراني من خلال تعزيز البنية الأساسية، لمواجهة أي تهديدات وهجمات رقمية تستهدف أمنها واقتصادها.
إن الطريق نحو الإصلاح في الوطن العربي يحتاج إلى إرادة حقيقية، واعتراف بالأزمات المهددة لمبادئ التوافق، من خلال إيجاد مقاربة شاملة وواعية تراعي كافة الأبعاد، وتبتعد عن إثم الإنكار أو التبرير المبني على أنصاف الحقائق، مع إعطاء هامش للاعتراف بالمسؤولية التاريخية عن طريق مراجعة الذات، والاعتراف بأخطاء الماضي والسياسات الفاشلة التي زادت من هوة الأزمات وتفاقمها، مع التوقف عن استخدام الحلول الترقيعية، وتفعيل الأدوات الرقابية درءًا لتعاظم الفساد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق