فتح دمشق
د. تيسير التميمي
دمشق الفيحاء وجوهرة الشام، هذه المدينة الحصينة بأبوابها الضخمة التي يُحْكَمُ إغلاقها من الداخل بقوة، المدينة الحصينة بأسوارها العالية المبنية من الحجارة الصلدة على ارتفاع يربو على 11 متراً، ويزيد سمكها عن ثلاثة أمتار، المدينة الحصينة بحصونها البالغة الارتفاع الكثيرة الشُّرُفات ليحتمي بها رماة الرومان بسهامهم وبالمجانيق، المدينة الحصينة المحاطة بخندق عميق عرضه أكثر من ثلاثة أمتار مملوء بالماء، فأية قوة يمكنها اقتحام هذه المدينة المنيعة؟
لقد اقتحمها جيش المسلمين وفتحها في العشر الأواخر من شهر رجب من العام الثالث عشر للهجرة النبوية المشرفة، ومعركة فتحها كانت إحدى معارك فتوح الشام العظيمة، وكان جيش الفتح بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، وكان ذلك في عهد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي آلت إليه الخلافة بعد وفاة الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه،
فقد توفي الصديق قبل فتح دمشق، ورأى عمر افتتان الناس بخالد وبانتصاراته، فكتب إلى أبي عبيدة يعزيه والمسلمين بوفاة خليفة المسلمين، ويخبره بأنه الأمير على جيوش الشام وبعزل خالد عن الإمارة، وفي ذات الوقت أمره أن يستشيره في الحرب {فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة كتمه من خالد حتى فتحت دمشق بنحو من عشرين ليلة، فقال له خالد: يرحمك الله، ما منعك أن تُعْلِمَني حين جاءك ؟
فقال: إني كرهتُ أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا أريدُ ولا للدنيا أعمل، وما ترى سيصيرُ إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن أَخَوَان، وما يضر الرجل أن يَلِيَه أخوه في دينه ولا دنياه}
ومعنى يليه أخوه أن يكون اخوه والياً عليه وأميراً أو قائداً
أما قصة معركة الفتح فقد ارتحل أبو عبيدة بجيشه متجهاً إلى مرج الصُّفَّر وهو عازم على حصار دمشق، فأتاه الخبر بقدوم مدد للروم من حمص، وباجتماع قوات كبيرة من فلول الروم بفحل من أرض فلسطين، فاحتار أبو عبيدة بأيهما يبدأ: هل بحصار دمشق وفتحها أم بمواجهة الروم في فحل، فاستشار الخليفة فكتب إليه عمر [ابدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم فانْهَدْ لها، وأَشْغِلُوا عنكم أهل فحل بخيول تكون تلقاءهم، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب، وإن فتحت دمشق قبلها فسر أنت ومن معك واستخلف على دمشق، فإذا فتح الله عليكم فحلاً فسر أنت وخالد إلى حمص واترك عَمْراً وشرحبيل على الأردن وفلسطين]
ومعنى انهد إليها أي أسرع في قتالها واصْمدْ، أراد الخليفة بهذا القرار إشغال الروم بالقتال في جبهة جديدة غير رئيسية لإلهائهم عن وجهة المسلمين وتحركهم لفتح دمشق
فأرسل أبو عبيدة إلى فحل جيشاً بقيادة الصحابي عمارة بن مخشي رضي الله عنه، فساروا إلى فحل، فوجدوا الروم هنالك قريباً من ثمانين ألفاً، فدارت بينهم المعركة التي أسفرت عن نصر للمسلمين وفتح لأرض فحل.
سار أبو عبيدة وخالد بن الوليد في قوة كبيرة من جيش المسلمين متجهين إلى دمشق، وفي طريقهم لم يجدوا مقاومة من الروم ولم يعترض طريقهم أحد. فلما بلغوا غوطة دمشق دخلوها فوجدوها خالية على عروشها بعد أن هجرها أهلها ليحتموا بأسوار دمشق
توقع أبو عبيدة أن هرقل سيرسل مدداً من حمص لمحاصرة جيش المسلمين وحصرهم بين حصون دمشق وجيوش الروم وهي خطة الكمّاشة، فبنى أبو عبيدة خطته على هذا الاحتمال الكبير وقام بترتيب جيشه بطريقة تتناسب معه.
وفي التحضير لمعركة فتح دمشق أرسل أبو عبيدة جيشاً جيشاً ليكون بين دمشق وبين فلسطين لقطع الطريق من جهة الجنوب، وبعث جيشاً آخر بقيادة ذي الكلاع الحميري رضي الله عنه ليكون بين دمشق وحمص للحيلولة دون وُصول الإمدادات القادمة من جهة هرقل شمالاً ولقطع الاتصالات بينها وبين القيادة البيزنطيَّة، وبعث جيشاً ثالثاً إلى برزة (وكانت قرية شمال دمشق لكنها اليوم جزء منها) بقيادة أبي الدرداء رضي الله عنه ليكون عوناً وسنداً له هو وجيش ذي الكلاع، وسار أبو عبيدة في جيشه الرئيسي قاصداً دمشق
صدقت فراسة أبي عبيدة ووقع الاحتمال الذي توقعه بقدوم إمدادات من حمص لأهل دمشق، فقد أرسل هرقل عدداً كبيرا من القوات الرومية لنجدة الروم المحاصرَين في دمشق، ففوجئت هذه الأمداد بجيش المسلمين الرابض لهم في الطريق بقيادة ذي الكلاع الذي كان في انتظارهم ودارت معركة عنيفة بين الجانبين، واستمر القتال الشديد بين الفريقين حتى انكشف الروم ولحقت بهم هزيمة منكرة، فارتدّوا منهزمين إلى حمص، وكان لانتصار المسلمين في هذه المعركة أكبر الأثر في نفوسهم حيث قويت عزيمتهم على القتال، وعلى تحمل الظروف القاسية التي مروا بها مع قدوم الشتاء ببرودته الشديدة وأجوائها القارسة التي لا يطيقها أبناء الصحراء المعتادين على درجات الحرارة العالية.
أما أبو عبيدة فقد قسَّم جيشه الرئيسي: فجعل خالداً في القلب، وجعل نفسه وعَمْرَاً بن العاص رضي الله عنه على الميمنة والميسرة، وجعل على الفرسان عياضاً بن غنم رضي الله عنه، وجعل على المشاة شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه، فقدموا دمشق وكان عليها نسطاس بن نسطورس، وهنا وزع أبو عبيدة قادته على أبواب المدينة: فوضع خالداً على الباب الشرقي، وجعل نفسه على باب الجابية الكبير، ووضع يزيداً بن أبي سفيان رضي الله عنهما على باب كيسان، ووضع عَمْرَاً على باب الفراديس، وشرحبيلاً على باب توما، ونصب الجنود المسلمون المجانيق والدبابات،
وعمد أبو عُبيدة إلى عزل دمشق عمَّن حولها وقطع اتصالاتها مع العالم الخارجي، وأحكم الحصار عليها لأكثر من سبعين ليلة، ولم يكن هذا الحصار الأول لدمشق من قبل المسلمين، بل كان الحصار الرابع، فالحصار الأول كان عندما جاء خالد من العراق ثم انتقل لفتح بصرى، والحصار الثانى كان بعد عودته من فتح بصرى وتوجهه إلى أجنادين، والحصار الثالث كان بعدما عاد من أجنادين،
وفي أثناء الحصار استمر أهل دمشق ممتنعين من المسلمين غاية الامتناع لأنهم كانوا يأملون وُصول النجدة التي طلبوها من هرقل المقيم في حمص على وجه السُرعة لتفُك الحصار عنهم، ولما طال انتظارهم للمدد أرسلوا إلى هرقل ثانية يستعجلون مدده قبل أن تخور قوتهم وتضعف عزيمتهم على الصمود والمقاومة، فبعث إليهم هرقل يطمئنهم ويحثهم على الثبات والمقاومة، فقوّى ذلك من همّتهم وبعث الأمل في قلوبهم مما شجعهم على الثبات وصد هجمات المسلمين
لكن بمرور الوقت الطويل أيقن أهل دمشق استحالة وصول الأمداد إليهم وازداد التوتُّر بينهم؛ وبالأخصَّ بعد انسحاب الحامية البيزنطيَّة من مواقعها تاركةً لهم مسؤولية تدبُّر أمرهم بِأنفُسهم، وهذا ديدن أولئك الأقوياء الذين يرون أنفسهم سادة العالم وكبراءه، إنه التخلي عن الحلفاء عند انقطاع المصلحة أو انتهاء الدور، فلم يَعُدْ لهم قيمة أو دور في الصراع مع المسلمين، يئس أهل دمشق المحاصَرين من وصول نجدة تُنقذهم وتُجلي المُسلمين عن مدينتهم فأصاب هِمَمَهُم الضعف وسيطر على قلوبهم الفشل وتسرَّب إلى نفوسهم اليأس ونال من عزيمتهم الوَهَن ومالوا إلى الاستسلام، وبالمقابل قوي المسلمون واشتد بأسهم فاستأنفوا الحصار وشددوه على المدينة وأهلها،
ومع مرور الوقت وسيطرة اليأس على قلوب أهل دمشق بدأ القلق على مصير المدينة ينتاب قادتها؛ فاجتمع عدد منهم وذهبوا إلى توماس القائد العام لجيش الروم في دمشق وزوج ابنة الإمبراطور هرقل، فأخبروه بمخاوفهم وعرضوا عليه الصلح مع خالد، إلا أنه رفض لظنه القدرة على الدفاع عن المدينة وعلى طرد المسلمين من حولها، وقرر أن يشن هجوماً قوياً على المسلمين، فجمع قوة كبيرة تجمعت عند باب توما، ثم أصدر أوامره إلى الرماة فانهالوا من فوق الحصن على شرحبيل وجنوده بالسهام والحجارة ليبعدوهم عن باب الحصن، واندفع توماس بخمسة آلاف فارس خارجاً من باب الحصن لمواجهة المسلمين.
استطاع الرماة إلحاق خسائر في صفوف المسلمين واستشهد عدد كبير من فرسانهم فاضطروا إلى التراجع بعيداً عن مرمى سهام الروم، وسرعان ما نشب قتال عنيف بين قوات شرحبيل وقوات توماس، وعلى الرغم من تفوق قوات الروم إلا أن المسلمين ثبتوا حتى أنهم ألجأوا عدوهم للتراجع داخل الحصن بعد أن أصابوا قائدهم توماس بسهم في عينه، ولكنه لم ييأس حيث باغت المسلمين مرة أخرى بهجوم ليلي واسع ومن عدة أبواب في آن واحد مع التركيز على الباب الشرقي بأكبر عدد من القوات لمنع خالد من نجدة شرحبيل.
وقبل منتصف الليل سمع المسلمون قرع النواقيس، وكانت تلك الإشارة التي أعطاها توماس لفتح الأبواب، وفجأة اندفعت قوات الروم نحو المسلمين، فتصدى لهم المسلمون بكل شجاعة واستبسال، وسقط عدد كبير من الروم قتلى وجرحى، واستمر القتال إلى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، وأظهر قادة وفرسان المسلمين في جولة القتال هذه بطولات أسطورية، فكانوا يقاتلون بلا هوادة حتى أدرك الروم أنْ لا فائدة لهم من الاستمرار في القتال، فأسرع توماس يأمرهم بالانسحاب بعد أن كاد يقتل على يد شرحبيل. فاندفع جنود الروم إلى داخل أسوار حصونهم، ولم يحاول الجنود المسلمون اللحاق بهم مكتفين بما كبدوه لهم من هزيمة مرّة، فعادوا يضربون عليهم وعلى مدينتهم الحصار من جديد
لكن الله عز وجل هو مسبب الأسباب ومقدّر الأقدار، وهو صاحب القدرة والمشيئة، قال جلَّ ثناؤه {… إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} الطلاق 3، فلا يكون في كونه وملكوته وتحت عرشه إلاّ ما أراده هو سبحانه وتعالى، قال جل وعلا {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} النحل 40، ففي أثناء الحصار ولد لبطريرق دمشق ولد جديد، فصنع طعاماً وشراباً حضره كثير من المدعوين وفي مقدمتهم القادة والجنود والرماة وحُرَّاس الأسوار، فباتوا عنده في وليمته هذه قد أكلوا وشربوا وتعبوا فناموا، وأنه لأمر مستغرب أن ينشغل الشعب وقادته وزعماؤه بهذه المناسبات الشخصية وهم في حالة حرب لا يعلمون نتائجها ولكنهم يعلمون قدرات عدوهم وبأسه وشجاعته !
علم خالد بذلك لأنه كان لا ينام ولا يترك أحداً ينام، بل كان قائداً دائم اليقظة والحذر والترصُّد للعدو للانقضاض عليه، وله مخابراتٌ قوية ماهرة يوافونه بكل أخباره وبأدق تفاصيلها لا يخفى عليه شيء منها، فقد رأى خالد أنه لا أحد من الروم على السور، فوجّه جيشه نحو الباب الذي كلفه به أبو عبيدة، وقال خالد لجنوده [إذا سمعتم تكبيرنا فوق السور فارْقَوْا إلينا] ومعنى ارقوا إلينا أي اصعدوا إلينا، ثم قطع خالد وجنوده الخندق سباحة بِقِرَبٍ في أعناقهم، والقرب هي أوعية مصنوعة من الجلد ليوضع فيها الماء، ثم نصبوا السلالم التي جهزوها من الحبال وصعدوا فيها، فلما استَوَوْا على السور رفعوا أصواتهم بالتكبير،
فلما سمع الجنود المسلمون تلك الإشارة هرع عدد كبير منهم فصعدوا السلالم والحبال ووصلوا أعلى السور وهم يكبّرون، ثم نزلوا إلى الباب الخارجي للمدينة فقطعوا أغاليقه بالسيوف وفتحوه، فدخل باقي الجيش الذي ينتظر خارج السور من الباب الشرقي، ولما سمع أهل البلد التكبير ثاروا وذهبوا إلى أماكنهم من السور التي تركوها، لكن كان الأوان قد فات، فالجنود المسلمون حينها كانوا قد انتشروا في المدينة، ودار قتال يسيرٌ بينهم وبين جيش خالد فسقط عدد كبير منهم قتلى، وتمكن خالد وجيشه من فتح المدينة ودخولها، ثم دخلها المسلمون من كل جانب وباب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق