عام الهوان... خروج العرب من الشرق الأوسط
كل بيانات الإدانة والشجب والاستنكار الصادرة من عواصم لغة الضاد بشأن محارق الكيان الصهيوني في غزّة لا تضيف شيئاً، سوى تأكيد خروج العرب من الشرق الأوسط رسمياً، ليس بالمعنى الجغرافي، وإنّما بالاستقالة من الدور ومن الحدود ومن الوجود السياسي الحضاري الفاعل، والاكتفاء بالمشاهدة والمتابعة.
يشجب العرب ويدينون ويناشدون المجتمع الدولي التدخّل لوقف المذابح، وكأنّهم ليسوا جزءاً من هذا المجتمع الدولي، يؤثّرون فيه ويسهمون في صنع حركته ونفوذه ودوره في القضايا الدولية، ثمّ ينادون على ضمير العالم أن يتحرّك لإنقاذ الإنسان الفلسطيني المحاصر داخل المحرقة الصهيونية، وكأنهم يقرّون بأنهم ليسوا جزءاً من هذا الضمير، يؤثّرون فيه ويتأثّرون به.
تستوي في ذلك البيانات الصادرة عن الحكومات، أو التي تنشرها هيئات دينية وثقافية وحقوقية، إذ تشي كلّها بأن العرب ينطلقون من وضعية الرضا بالعجز والتسليم بالهشاشة، بما لا يجعلهم يفكّرون في فعل شيء، أو اتخاذ إجراء أو قطع خطوة في طريق الإنقاذ، لا دور لهم سوى النداء على العالم الذي صنع الاحتلال وزرعه في أرضنا ورواه (ولا يزال يرويه)، بأن يكفّ يد الاحتلال عن شعب عربي يواجه الفناء والإبادة، بينما له نحو 22 شقيقاً، أو هكذا يزعمون، ينعشون اقتصادات الدول الراعية للاحتلال بأموالهم وثرواتهم.
في بيان عاطفي للغاية للأزهر الشريف تقرأ: "يُدين الأزهر الشريف بشدّة الصمت الدولي تجاه المجازر التي يرتكبها الكيان الإرهابي في قطاع غزّة، والتي كان آخرها إحراقه مستشفى كمال عدوان شمال القطاع، واستهدافه المرضى والأطباء، واستشهاد عشرات الأبرياء، واعتقاله الأطباء والمسعفين والممرضين، وإجبارهم على خلع ملابسهم واختطافهم لأماكن مجهولة، في جريمة حرب مكتملة الأركان، لا تصدر إلّا عن عصابات معدومة الرحمة والأخلاق، ووحوش مُجرَّدة من كل معاني الإنسانية".
وما العمل أيها الأزهر الشريف؟
يأتي الردّ:
"ويذكِّر الأزهر العالم بأن هذا الوحش الصهيوني الكاسر -عديم الرحمة والإنسانية- قد ارتكب كلّ جرائم الحرب المحرّمة في حقّ الشعب الفلسطيني البريء، وسط تهميش متعمّد لما يحدث في قطاع غزّة، ومن دون أي تحرّك دولي أو عربي، وأن هذا العدوّ قد اطمأنَّ لردود الفعل تجاه جرائمه، وأنها لن تعدو- وللأسف الشديد - مُجرّد اجتماعات وقرارات لا تتجاوز قيمته قيمة الحبر الذي كتبت به، مؤكّداً أنه يجب علينا النظر في بدائل أخرى رادعة لإقرار السلام في فلسطين".
كلام جيّد، لكنّه موجّه إلى الجهة الخطأ، إذ كان الأَولى بالأزهر، وغيره، أن يستصرخ الأنظمة والحكومات العربية لتكون عنصراً فاعلاً في هذه المنطقة، وأن تكون جزءاً من معادلة الشرق الأوسط، بدلاً من أن تكون كلّها مُجرَّد عود الثقاب الذي يشعله الاحتلال لكي يحرق به فلسطين، شعباً وأرضاً وتاريخاً وجغرافيا، كان حريّاً أن يكون الخطاب مندّداً بالصمت العربي المتواطئ المهين المهان المساعد على اتساع المحرقة، بل والراضي بها والمساهم فيها.
كلام جيّد، لكنّه موجّه إلى الجهة الخطأ، إذ كان الأَولى بالأزهر، وغيره، أن يستصرخ الأنظمة والحكومات العربية لتكون عنصراً فاعلاً في هذه المنطقة، وأن تكون جزءاً من معادلة الشرق الأوسط، بدلاً من أن تكون كلّها مُجرَّد عود الثقاب الذي يشعله الاحتلال لكي يحرق به فلسطين، شعباً وأرضاً وتاريخاً وجغرافيا، كان حريّاً أن يكون الخطاب مندّداً بالصمت العربي المتواطئ المهين المهان المساعد على اتساع المحرقة، بل والراضي بها والمساهم فيها.
مثيرٌ للأسى والسخرية أن صياغة بيانات الحكومات العربية لا تأتي مختلفةً عن بيان الأزهر، لا شيء سوى الشجب واستجداء المواقف الدولية وادّعاء الانتساب للقضية، بينما معظم هذه الحكومات محرّضة أو متواطئة على كلّ من يقاوم أعداء هذه القضية، ناهيك عن الأقرب جواراً للشقيق الفلسطيني المذبوح الذي لم يفكّر لحظة في وقف تجارته مع العدو أو تعليق علاقاته السياسية والاقتصادية والأمنية معه، راضخاً ذليلاً لمشيئة استعمارية لا تتورّع عن الإعلان يوميّاً عن امتلاكها الشرق الأوسط، وانفرادها بتحديد من يحكم شعوبه، ويدير ثرواته، فيما ارتضت حكوماته العربية بأن تكون أدوات دبلوماسية ومالية بيد صاحب العقد والحلّ في شؤون المنطقة، والذي يتوعّد الكلّ بالجحيم إن لم يتم استئصال الوجود الفلسطيني المقاوم، وإعادة أسرى العدو قبل 20 من يناير/ كانون الثاني المقبل.
هذا الخروج الطوعي من الشرق الأوسط، وسياسيّاً وحضاريّاً، لا يتجسّد في الموقف من غزّة وفلسطين فقط، بل كان أكثر وضوحاً في الحالة اللبنانية، إذ غاب العرب عن الموضوع حرباً وسلماً، تاركين الاحتلال وداعميه يقرّرون حدود المقتلة ومساحات التوغل والهيمنة على الجغرافيا، وهُويَّة رئيس لبنان القادم. والأمر ذاته تجده في الحالة السورية، حيث الحضور الطاغي من حكومات إقليمية وغربية في رسم ملامح المستقبل السوري بمحتوياته كلّها، وسط غياب أيّ دور عربي حقيقي وفاعل، مكتفين بأن يلعبوا أدواراً ثانوية في خدمة هذا الطرف الإقليمي أو ذلك النفوذ الدولي.
ولا يختلف الأمر في نطاق الداخل الفلسطيني ذاته، إذ تسلك سلطة محمود عبّاس وكأنها مُجرَّد ترس في آلة الاحتلال، تتحرّك بأوامره، تقتل المقاومة وتغتالها وتحاربها، باستبسالٍ يفوق ما تفعله قوات النخبة الصهيونية، لتبدو هي الأخرى خارج معادلات فلسطين، تماماً كما اختار العرب أن يكونوا خارج معادلات الشرق الأوسط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق