سفينة الحرية وأسطول الانهزامية
في توقيت واحد تقريباً، كانت مجموعتان بصدد تحدّي الحصار الصهيوني على الشعب الفلسطيني: تجمّعت أولاهما في ساحل صقلية، جنوبي إيطاليا، تضم 12 شخصاً، بعضهم من النشطاء في مجال حقوق الإنسان وشخصيات دولية مؤثرة، مثل الناشطة في مجال التغير المناخي، السويدية غريتا ثانبرغ، والممثل ليام كانينغهام والبرلمانية الأوروبية ريما حسن.
وضمّت الثانية وزراء خارجية عرب، ومعهم مدير دار المناسبات المعروفة باسم جامعة الدول العربية، تجمّعوا في عمّان.
قصدت المجموعة الأولى شواطئ غزّة واستقلت السفينة"مادلين" التابعة لتحالف أسطول الحرية، أبحرت من ميناء كاتانيا في جزيرة صقلية بجنوب إيطاليا ظهر أمس، بهدف كسر الحصار الإسرائيلي وتوصيل مساعدات إنسانية.
أما المجموعة الثانية فقد أعلنت، بكل ثقة قبل يومين، أنها في طريقها إلى رام الله في الضفة الغربية لعقد اجتماعها هناك (أمس الأحد)، فأظهرت إسرائيل العين الحمراء، وأعلنت أنها ستمنع وزراء خارجية مصر والسعودية وقطر والأردن، وأحمد أبو الغيط، من دخول الضفة.
لم تمتثل مجموعة السفينة مادلين للتهديدات الإجرامية الصهيونية بالاعتداء على السفينة إن أصرّت على كسر الحصار المفروض على الفلسطينيين في غزّة، محمّلة بمساعدات إنسانية ورسائل إنسانية وسياسية بالغة الرقي. وقرّر فريق الحرية الإبحار، على الرغم من الأخطار المؤكّدة التي تنتظر السفينة ومن عليها، والتي تشمل القصف والاعتقال، كما جرى في محاولاتٍ سابقةٍ لتحالف أسطول الحرية.
أما مجموعة دار المناسبات (جامعة الدول العربية) فقد امتثلت لقرار الكيان الصهيوني بمنعها من الذهاب إلى رام الله، وجلست في عمّان تندب حظها، وتشكو إلى السماء قسوة إسرائيل معها، على الرغم مد الأيادي بعروض التطبيع والسلام الذي هو أبشع من الاستسلام، الأمر الذي جعل وزراء الخارجية يطلقون مجموعة من التصريحات الباليستية الفتّاكة التي استقبلتها تل أبيب بابتسامة أفعى سامّة،
فقال وزير الخارجية الأردني بكل حزن "إن قرار إسرائيل منع زيارة الوفد الوزاري العربي إلى رام الله يعكس عنجهيتها وتطرّفها".
ثم لحقه وزير الخارجية السعودي بتصريح أبعد مدى، قائلًا "إن رفض إسرائيل زيارة وفد اللجنة الوزارية يؤكّد رفضها مسار السلام وهذا يزيدنا عزيمة"، من دون أن يحدّد نوع هذه العزيمة وموضوعها واتجاهها. لكن وزير الخارجية المصرية كان أكثر شراسة، فاعتبر أن"سياسة التجويع التي تتبعها إسرائيل في قطاع غزّة تنتهك أبسط حقوق البشر".
لم يحدّد وزراء الخارجية العرب بالضبط الجهة المستهدفة بهذا النحيب الدبلوماسي الرقيق، وإنْ غلب الظن أنهم يتوجّهون بالشكوى إلى البيت الأبيض، الذي يرى في المطالبة بوقف العدوان وإدخال المساعدات وانسحاب الاحتلال من غزّة نوعاً من الإرهاب الذي تمارسه حركة حماس. كما ينظر إلى ما يعرف باسم "مقترح ويتكوف" بوصفه نصّاً تلموديّاً مقدّساً لا تجوز مناقشته أو التعاطي معه حذفاً أو إضافة، إذ يعلن مبعوث البيت الأبيض السيد ويتكوف شخصيّاً أن رد "حماس" على المقترح الأميركي غير مقبول، إذ يبقى المتاح فقط أمام الفلسطينيين والعرب أن يبصموا على ما تخطّه إسرائيل بيدها وترسله لهم مع الإدارة الأميركية.
هل عرف تاريخ العرب منذ خلقهم الله مثل هذه العُمق السحيق للإحساس بالدونيّة والعجز أمام سبعة ملايين لقيط مزروعين قهراً وعدواناً في قطعة من الأرض العربية الخالصة، تحميهم عنصرية أوغاد الكوكب، ودونيّة نظام عربي يحرص على امتلاك أسباب حالة الضعف أكثر بآلاف المرّات مما يحرص على امتلاك أدوات القوة؟.
مشهد وزراء خارجية العرب في عمّان، وهم يتصنّعون قلة الحيلة، لم يكن نتيجة غلظة صهيونية وقحة، بقدر ما هو تعبير عن موقف استراتيجي يناضل من أجل تصدير حالةٍ من الانهزامية المقصودة، تصلح مهرباً سهلاً من أية مسؤوليات تاريخية وجغرافية، أو مقرّراتٍ والتزاماتٍ أعلنها العرب الرسميون بأنفسهم ذرّاً للرماد في عيون شعوبٍ تموت كل يوم كمداً على هوانها على حكّامها قبل أعدائها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق