علي باشا مبارك (1-2)
(1239 - 1311هـ / 1824 - 1893م)
تمكن بأفكاره الفذة من تحويل مصر من الجهل إلى التنوير
د. محمد بن موسى الشريف
جاء علي مبارك في زمن صعب؛ إذ لم يكن في مصر آنذاك أسس الدولة الحديثة في جوانب كثيرة، فجاء هذا الرجل الفذّ بأفكار وأعمال يعجز عنها جماعة من الناس، ولم تأت هذه الأعمال من رجل ورث المجد كابراً عن كابر، وخلفاً عن سلف، ولم تأت من شخص نشأ في أسرة غنية مرفهة أو مشهورة بالعالم، إنما كان علي مبارك عصامياً نشأ في أسرة فقيرة من ريف مصر، وعانى في سبيل تحصيل العلم أشد الشدائد وأقسى المحن.
جاء علي مبارك في زمن صعب؛ إذ لم يكن في مصر آنذاك أسس الدولة الحديثة في جوانب كثيرة، فجاء هذا الرجل الفذّ بأفكار وأعمال يعجز عنها جماعة من الناس، ولم تأت هذه الأعمال من رجل ورث المجد كابراً عن كابر، وخلفاً عن سلف، ولم تأت من شخص نشأ في أسرة غنية مرفهة أو مشهورة بالعالم، إنما كان علي مبارك عصامياً نشأ في أسرة فقيرة من ريف مصر، وعانى في سبيل تحصيل العلم أشد الشدائد وأقسى المحن.
ولد الأستاذ علي مبارك في قرية برنبال الجديدة التابعة لمركز المنصورة في محافظة الدقهلية، وكانت أسرته كثيرة العدد قليلة ذات اليد، ووالده رقيق الحال يسمى مبارك بن سليمان بن إبراهيم الروَجي، كان إماماً وخطيباً وقاضياً في قريته، ورث تلك الوظائف عن آبائه، تركت العائلة القرية، وتنقلت في البلاد إلى أن استقرت في عرب السماعنة.
وهناك حَسُن حال العائلة شيئاً ما، وأرسل مبارك ابنه علياً إلى الكُتّاب لكن الطفل ضاق ذرعاً بسوء معاملة الشيخ فرفض البقاء في الكُتاب، ثم أرسله أبوه إلى أحد الكتبة ليعلمه فبقي معه مدة لكنه نفر منه لاستغلاله إياه وإيذائه له.
رحلة تعليم شاقة فهرب منه وهام على وجهه في البلاد حتى وصل إلى قرية بجهة المطرية فأصابته الكوليرا، فأخذه رجل من أهل القرية وعالجه أربعين يوماً وأهله يبحثون عنه، فلما عرفوا مكانه هرب منهم لكنهم استطاعوا الوصول إليه، فأرجعوه إلى القرية، فأخذه والده إلى كاتب المساحة ليتعلم عنده، لكنه وجده خَرِب الذمة فنفر منه ورجع إلى أبيه.
وقد ألحقه أبوه بعمل لدى كاتب مأمورية أبي كبير براتب خمسين قرشاً في الشهر لكن الكاتب لم يكن يُسلم له راتبه، فلما قبض الغلام حاصل أبي كبير أمسك منه راتبه، فلما عرف ذلك المأمور غضب منه، فسجنه ووضع الحديد في رقبته ولبث في السجن أكثر من عشرين يوماً في أحوال صعبة، ثم أُفرج عنه بوساطة اجتهد فيها أبوه حتى أخرجه من السجن.
تغير مسار حياته
وذهب به أبوه إلى مأمور زراعة القطن ليعمل عنده، وهنا تغيرت حياته كلها إذ إنه رأى المأمور فوجده أسود حبشياً ووجد كبار القوم يقفون بين يديه ويتقربون إليه، فعجب الغلام من ذلك، وسأل عن السبب فاهتدى إلى أن ذلك المأمور درس في مدرسة الجهادية بقصر العيني، فاجتهد بكل وسيلة للالتحاق بتلك المدرسة في القاهرة، ولم تفلح توسلات أبيه وبكاؤه بين يديه لإثنائه عن ذلك، واستطاع الغلام بذكائه الفطري أن يُقنع مَن جاء من القاهرة ليختار نجباء التلاميذ الصغار ليلحقهم بمدرسة قصر العيني، أقنعه بصلاحيته للدراسة فأُخذ إلى القاهرة، وقد كان عمره آنذاك اثني عشر عاماً، وذلك في سنة 1251هـ/ 1835م.
مدرسة قصر العيني
ودخل علي باشا مبارك مدرسة قصر العيني التي لم تكن مدرسة بالمعنى المعروف بل هي أشبه بثكنة عسكرية، والدروس ضعيفة والطعام لا يكاد يكفي الطفل الصغير، حتى صار يمص العظم الذي يتركه الآكلون، والضرب والسب هو الأمر السائد في المدرسة، فمرض الغلام وأُصيب بالجرب، فنقل إلى المستشفى وبقي فيه مدة حتى جاء أبوه ليأخذه خفية فرفض لأن مَن يهرب من المدرسة يُنكل بأهله، ويقبض عليهم حتى يسلم الفارّ نفسه!! فعاد إلى المدرسة وبقي فيها سنة.
من «أبو زعبل» إلى «المهندسخانة» وبعد مدرسة أبو زعبل نُقل علي باشا مبارك إلى المدرسة التجهيزية بأبي زعبل، وأصبح الغلام تدريجياً مقبلاً على الدراسة بل نبغ فيها حتى اختير لمدرسة المهندسخانة - مثل كلية الهندسة اليوم - ببولاق، وذلك سنة 1255هـ/ 1839م، فأقام بها خمس سنين، وكان دائماً أول فرقته، وفي ذلك الوقت أراد محمد علي باشا حاكم مصر أن يرسل أبناءه إلى فرنسا للدراسة فيها، وأمر باختيار بعض الطلاب النابغين ليدرسوا مع أبنائه، فاختير علي مبارك، وكان ناظر المهندسخانة فرنسياً يُدعى «لامبير»، وكان يريد أن يستبقي علي مبارك ليكون معلماً في المدرسة وحاول إغراءه لكنه رفض وسافر إلى فرنسا سنة 1265هـ/ 1849م، وكان في البعثة اثنان من أبناء محمد علي واثنان من أحفاده، أحدهما اسمه إسماعيل بن إبراهيم، وهو الخديو إسماعيل فيما بعد، ولذا سميت البعثة ببعثة الأنجال.
الفرنسية بدون معلم
ومن همته العالية أنه لما سافر إلى فرنسا لم يكن يعرف الفرنسية، وطلب القائمون الفرنسيون على البعثة من الطلاب الذين يعرفون الفرنسية أن يعلموها للطلاب الذين لا يعرفونها فرفض الطلاب، فما كان من علي مبارك إلا أن تعلم الفرنسية دون معلم من كتب اقتناها في تعليم الأطفال الفرنسية، واجتهد في التعلم حتى لم يكن ينام من الليل إلا قليلاً واجتهد في طلب العلم حتى أنه صار مقدماً بين الطلاب، وبعد سنتين تجاوز الامتحان في الشؤون العسكرية بتفوق، ثم التحق بالجيش الفرنسي في الفرقة الثالثة من المهندسين الحربيين، فظل بها قرابة عام، ثم توفي إبراهيم باشا وتولى الحكم في مصر عباس الأول حفيد محمد علي، فأرجع الطلاب إلى مصر، لِما اشتُهر عنه من كراهيته تعليم المصريين حتى لا تتفتح أعينهم على حقوقهم.
أعمال عبقرية
ولما عاد إلى مصر تقلب في الوظائف الرسمية والأعمال المهمة في زمن عباس الأول، ومن بعده سعيد وإسماعيل وتوفيق، فمن ذلك:
1- عضوية لجنة اختيار المهندسين وإحلال الأقوياء مكان الضعفاء، وتيسير الملاحة بالنيل. 2- تنظيم المدارس الملكية وترتيب ميزانيتها، ومنها مدرسته الأولى المهندسخانة، واختيار الكتب الملائمة لها.
3- المشاركة في الحملة المصرية لمؤازرة الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا، وهي المعروفة بحرب القرم، وذلك سنة 1270هـ /1854م.
4- إدارة القناطر الخيرية، فأجرى تعديلات في نظام الري وتحويل الماء حتى وصل الماء إلى مساحات شاسعة كانت محرومة منه.
5- إدارة السكة الحديدية، فكان يباشر العمل فيها من الظهر إلى الغروب كل يوم.
6- إدارة نظارة الأوقاف، أي وزير الأوقاف، وقد وجدها مهملة فأحياها وضبطها وأحسن استغلال ريعها.
7- إنشاء دار الكتب المصرية التي سُميت آنذاك بـ«الكُتبخانة الخديوية»، وذلك سنة 1287هـ/1870م، فأنقذ الله تعالى بها ما لا يُحصى من الكتب المهملة في المساجد والجوامع والمكتبات الخاصة، وتلك الكتب كانت نهباً للأيدي السارقة، والأرَضة.
8- نظارة الأشغال، وهذا مثل وزارة الشؤون البلدية في يومنا هذا، فقام بتخطيط القاهرة وتنظيمها، وفتح كثيراً من الشوارع فيها مثل شارع محمد علي وميدانه بالقلعة، وشارع الأزبكية وميدانها، وشارع عابدين وباب اللوق وما زال تخطيطه قائماً في القاهرة إلى الآن، وأضاء شوارع القاهرة بالغاز، وبنى مستشفى قصر العيني، ومدرسة للطب، وعمل مجاري القاهرة، وأنشأ المذبح «السَلَخانة»، وعمل الجسر بين قصر النيل والجزيرة، وأقام المنتزهات على ضفاف النيل، وفرش الطرق بالحصى للحد من الغبار، وأوصل مياه النيل إلى كثير من جهات القاهرة فدخل إلى بيوتها، وكذلك أحدث في الإسكندرية تجديدات مهمة، وطهر التـرع والمصارف، وشق ترعة الإبراهيمية والإسماعيلية وكثيراً من الترع، وأقام الجسور والقناطر على النيل، وأنشأ دور الدواوين بالمحافظات والمديريات، وأصلح السجون بعد أن كانت أقبية وكهوفاً مظلمة، وبنى المستشفيات بعد أن كانت في الدكاكين والإسطبلات، وشق الشوارع وغرس الأشجار على جوانبها، واجتهد في كل ذلك حتى قال: «وهذه الأعمال جميعها أو أكثرها كنت أباشر أوامرها من رسومات وشروط مع المقاولين ونحو ذلك، فكنت في مدة إحالة هذه الدواوين عليّ مشغولاً بالمصالح المِيريّة، وتنفيذ الأغراض الخديوية - أي الرئاسية - ليلاً ونهاراً حتى لا أرى وقتاً ألتفت فيه لأحوالي الخاصة بي، ولا أدخل بيتي إلا ليلاً، بل كنت أفكر في الليل فيما يُفعل بالنهار».
9- أشرف على حفل افتتاح قناة السويس الذي دُعي إليه ملوك وأمراء أوروبا، ثم عينه الخديو إسماعيل ممثلاً لمصر في النـزاع القائم بين الحكومة المصرية وشركة قناة السويس، فنجح في فض النزاع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق