أين السياسة؟!
من يصدق أن الذين يتواجدون على الأرض في مصر الآن هم البلطجية والألتراس، والشرطة والجيش، أما من عداهم فهم إما غائبون وإما يتحركون في الفضاء وعلى شاشات التلفزيون.
لقد صرنا نقرأ في الصحف كل صباح أن الشرطة فتحت ميدان التحرير إلا أن البلطجية ما لبثوا أن أغلقوه، وهو خبر يكاد يتكرر يوميا بما يعطى انطباعات بأن القوة الحقيقية المتحكمة في الميدان باتت ممثلة في البلطجية، الذين صار بمقدورهم أن يمنعوا الشرطة من الحفاظ على الميدان مفتوحا، وحين حدث فذلك فإن الفوضى دبت في الشوارع المتفرعة عن الميدان، حتى تحولت إلى أسواق شعبية فرضت نفسها على الأرصفة واحتلت أجزاء من كل شارع، بحيث أصبحت حركة السيارات فيها متعذرة إلى حد كبير. واتسم ذلك الزحف على كل شوارع قلب القاهرة بجرأة مدهشة، حيث لم نعد نرى أثرا لشرطة المرور أو المرافق أو البلدية، وفي ظل ذلك الغياب لم يجرؤ أصحاب المحال الأصلية التي اصطفت على الجانبين على الاعتراض على أمثال تلك الغارات، بل بات كل واحد منهم مهددا هو ومتجره إذا أبدى ضيقا ازاء ما جرى، إذ ما أسهل أن يتعرض للاعتداء، وما أيسر أن يعود إلى متجره ذات صباح لكي يجده محطما ومنهوبا، ولن يجد الرجل من يحميه أو يعيد إليه حقه ويعوضه على ما فقده، وفي ظل غياب السلطة وجهاز الإدارة، فإن أصحاب المحال فضلا عن أصحاب العقارات والسكان، لم يعد أمامهم سوى الاعتصام بالصمت والقبول بكل التشوهات الحاصلة على الأرض، وهم صاغرون، ولا تخفى على أي أحد الرسالة التي يتلقاها هؤلاء حيث يرون الشرطة وهي تتراجع امام هجوم البلطجية، وحين يطالعون بأعينهم صورة سيارة الشرطة وهي تحترق، في حين يهلل البلطجية حفاوة وفرحا لأنهم حققوا ذلك «الإنجاز».
يوم الاثنين الماضى 4/3، نشرت جريدة «الأهرام» على صفحتها الأولى خبرا تحت عنوان يقول: «الداخلية تعلن الانسحاب من ميدان التحرير»، وتحت العنوان ورد النص التالي: أعلنت وزارة الداخلية سحب جميع خدماتها المرورية من ميدان التحرير، بعد تعرض أفراد من هذه الخدمات لهجوم حاملي العصى والشوم والأسلحة البيضاء، الذين أغلقوا الميدان بعد أن كانت قوات الأمن قد نجحت في فتحه أمام السيارات والمارة في كل اتجاه وهو كلام يصدمنا مرتين.
مرة بسبب الواقعة ذاتها، حيث لا يخطر على بال أحد أن يهاجم البلطجية الشرطة مستخدمين العصى والشوم والأسلحة البيضاء، فتنسحب الشرطة، في حين يفترض أن تكون الشرطة هي المهاجمة للبلطجية فتلقى القبض عليهم أو ترغمهم على الانسحاب.
والمرة الثانية حين يصبح ذلك خبرا عاديا يمر عليه القارئ مرور الكرام، ثم ينتقل إلى غيره لكي يتابع أخبار مباريات كرة القدم أو أسعار الخضراوات وبرامج التليفزيون.
الخبر أعلاه تضمن فقرات أخرى صادمة تقول إنه قبل أيام معدودة من النطق بالحكم في مذبحة مباراة الأهلى والمصري (التي قتل فيها أكثر من 70 شخصا من مشجعى الأهلي) حاصر مئات من «ألتراس» الأهلي مقر البنك المركزي في «وجبة» سابقة حاصروا البورصة ودار القضاء العالي ومجمع التحرير، وقطعوا طريق المطار، مما أدى إلى تأخر مغادرة وزير الخارجية الأمريكي جون كيرى القاهرة بعد انتهاء زيارته مصر، ثمة فقرة أخرى تحدثت عن «يوم دام» في بورسعيد، حيث قامت مجموعة من المتظاهرين وألتراس المصرى باقتحام مبنى مجمع المحاكم واستمروا في محاولة اقتحام مبنى مديرية الأمن، مما أدى إلى سقوط عشرات المصابين واحتراق عدة سيارات بينها واحدة للأمن المركزي.
وقد أعرب هولاء عن احتجاجهم إزاء ترحيل المتهمين في قضية مذبحة الاستاد من سجن بورسعيد إلى سجن آخر.
فيما سبق -وفي المنصورة والإسماعيلية- كان طرفا الحضور هما البلطجية والألتراس من ناحية وليس أمامهم سوى الشرطة والجيش من ناحية ثانية.
وظل الغياب من نصيب السياسة، ممثلة في أهل السلطة أو المعارضة، حيث بدا واضحا أن الأولين صامتون أما الأخيرون فقد كانوا محتفين وشامتين، على الأقل فذلك ما عبرت عنه الصحف وغيرها من المنابر الإعلامية المعبرة عنهم، إذا صح ذلك فهو يعني أن الدعوة إلى عودة الجيش تصبح أقرب إلى الوقفة السياسية العبثية، في حين عودة السياسة هي المطلب الحقيقي الذي ينبغي أن يلتف حوله الجميع، سواء كانوا في السلطة أو المعارضة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق