الخميس، 30 أكتوبر 2014

قد تسفر الهزيمة عن منحة لإسلاميي تونس

قد تسفر الهزيمة عن منحة لإسلاميي تونس 


ديفيد هيرست

تونس بلد صغير إلا أن المتابعين للأحداث فيها جمهور كبير. فعملية انتخاب البرلمان والرئيس فيها ذات شأن عظيم، ليس فقط لأنها تبقي العملية الديمقراطية على قيد الحياة، ولكن أيضاً بسبب الإشارات التي ترسلها إلى بقية العالم العربي. فها هي تونس مهد الثورة، تحتفظ بقدرتها على وضع الأجندة للمنطقة بأسرها.

إلا أن الإشارات التي ترسلها تونس كثيرة ومتنوعة، ويبدو أن الجمهور الغربي يسمع منها فقط ما يرغب في الاستماع إليه. فوسائل الإعلام الفرنسية المنتشية اعتبرت انتصار نداء تونس على النهضة نصراً للائكية، المرادفة للعلمانية، والتي تعني فصل الكنيسة عن الدولة، على الإسلاموية المعارضة لها، ونصراً للحداثة المؤيدة للغرب على التيار الديني المحافظ، ونصراً للطيبين على الأشرار.

يرى مثل هذا الخطاب أن النهضة هم الأشرار لأنه ما كان ينبغي لهم أن يفوزوا أصلا في عام 2011، وأن الديمقراطية تمخضت عن النتيجة الخطأ في حينه. وأن النهضة كانت بوجهين، فهي من جهة كانت تتحدث عن فضائل الديمقراطية في خطابها إلى الغرب بينما كانت وبكل هدوء تضع الأسس لنظام الخلافة الذي عملت من أجله طوال حياتها. وأن النهضة "سمحت"، أو على الأقل لم تفعل شيئاً، لوقف الاغتيالات السياسية التي وقعت في صفوف اليساريين.

إلا أن تونس ترسل رسائل أخرى لجماهير أخرى. فالعلمانية ليست الصفة المميزة الوحيدة لحزب نداء تونس. فالقوة التي تلصق المكونات غير المتجانسة لهذا الحزب بعضها ببعض هي قوة سلبية. هوية نداء تونس هي أنه ليس النهضة، وليس أياً من الحزبين الآخرين، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل، اللذين اشترك الإسلاميون معهما في السلطة منذ عام 2011.

وهذا هو السبب في أن نداء تونس لا يرغب الآن في الاشتراك في السلطة مع أي من أحزاب الترويكا، وذلك رغم أن نداء تونس والمؤتمر من أجل الجمهورية كلاهما علماني، بكل ما تحمله المرادفة الفرنسية من معنى. من المفترض أن يشترك المؤتمر من أجل الجمهورية – الذي يقف في الوسط من اليسار – في عدد أكبر من القواسم المشتركة مع نداء تونس مقارنة بالجبهة الشعبية، التي تتكون من الشيوعيين والماركسيين والقوميين العرب، بما يؤهله لأن يكون أحد شركاء نداء تونس في أي ائتلاف قادم.

إلا أن ذلك لا يعني الكثير بالنسبة لنداء تونس، فثمة عوامل أخرى أهم من ذلك. فأولاً وفوق كل اعتبار حزب نداء تونس ما هو إلا مطية لزعيمه باجي قايد السبسي، الذي شغل مناصب رفيعة في نظامي بورقيبة وبن علي. وإذا لم يتمكن هذا الراكب من النجاح في الانتخابات الرئاسية، فستحوم الشكوك حول جدوى الدرب الذي يسلكه نداء تونس المطية نفسه. ولقد أقر أحد مستشاري السبسي بأن نداء تونس ما هو إلا امتداد للأنظمة التي عصفت بها الثورة، إذ نقلت عنه وكالة الأناضول الإخبارية قوله: “نحن امتداد لنظام بن علي باستثناء واحد وهي حرية التعبير" التي لم تكن موجودة حينذاك.

هل بإمكان نداء تونس بدون السبسي الاستمرار كحزب يحمل رسالة ذات معنى؟ وهل سيتمتع بالاستقرار تحالف يتشكل من مجموعة من الأحزاب الصغيرة؟ سيكون بإمكان حركة النهضة، وبشكل منتظم، تشكيل أغلبية معارضة داخل البرلمان تضم الأحزاب الصغيرة التي ستتوافق معها بشأن الكثير من القضايا الجزئية.
إذا كان ميدان المعركة الرئيسي في البرلمان القادم هو الاقتصاد، وإذا ما حاولت الحكومة الجديدة اتخاذ قرارات غير مرغوب فيها مثل رفع الدعم عن السلع، فإن القدح المسموم الذي شربت منه الحكومة المذمومة في المرحلة الانتقالية سيكون قد انتقل بكل امتنان من يد النهضة إلى يد نداء تونس. ولعل هذا بالضبط ما يرغب فيه الحزب الإسلامي.

ليس سيئاً على الإطلاق، بالنسبة للنهضة، أن تمنى بهزيمة تجعلها في المرتبة الثانية كأقوى حزب سياسي في البلاد، ولك أن تتأمل للحظة أين كانت – في السجون وفي المنافي – وأين هي الآن بوصفها أحد المكونات الأساسية الدائمة في المشهد السياسي التونسي. والنتيجة التي حصلت عليها حركة النهضة تنسجم تماماً مع نتائج استطلاعات للرأي لقياس شعبية الإسلام السياسي حتى في دول الخليج التي تبذل قصارى جهدها لوأده.

فبحسب استطلاع للرأي أجراه معهد واشنطن، وهو من المراكز التي لم يعهد عنها التعاطف مع الإسلاميين، مازال الإخوان المسلمون "أقلية كبيرة مفاجئة" في تلك الدول التي لم تأل جهداً في قمعها – فقد صوت لها 31 بالمائة من السعوديين، و34 بالمائة من الكويتيين، و29 بالمائة من الإماراتيين. أما الفرع الفلسطيني للإخوان، حركة حماس، فحاز على ثقة ودعم 52 بالمائة من السعوديين، و53 بالمائة من الكويتيين و44 بالمائة من الإماراتيين.
وقد علق الدكتور عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية في دولة الإمارات العربية المتحدة، على ذلك في تغريدة له على التويتر بالقول: “‏ان تكون نسبة التأييد للإخوان 29% في الامارات بعد كل الحملة الإعلامية والرسمية والشعبية المكثفة ضدهم نسبة تستحق وقفة وقراءة متأنية.”

لو أخذنا بعين الاعتبار كل ما أشهر من أسلحة في وجهها خلال العامين الماضيين – من إغداق مال سعودي وإماراتي، ومن حملات إعلامية ومن اعتقالات، ومن تعذيب، فإن جماعة الإخوان المسلمين مازالت تتمتع بنواة صلبة من التأييد في مختلف أرجاء العالم العربي.

والواقع كما هو لا يساعد أياً من الأطراف على المضي قدماً، فمعظم النفوذ والمال يوجد في جانب دول الثورة المضادة بينما يوجد معظم الحراك الاحتجاجي في الجانب الآخر من العالم العربي. وطالما استمر هذا الانقسام، فلن يتمكن أي من الجانبين من التغلب على الآخر، والخلاصة انه لن تنطفئ هذه الشعلة التي أضيئت في كل من تونس ومصر.

هناك رسائل أخرى يمكن أن تستفاد من هذه النتيجة، ومنها أن هزيمة النهضة في الانتخابات البرلمانية قد أطاحت بأسطورة أن الإسلاميين إذا ما انتخبوا مرة فإنهم سيتمسكون بالسلطة ولن يتخلوا عنها أبداً، وبأن الحركة الإسلامية حركة إقصائية في الأصل. هذه هي التهمة التي وجهت لمحمد مرسي – الذي قيل بأنه لم يتمكن من تشكيل تحالفات مع القوى الأخرى واتهم انه قاد عملية أخونة جميع مؤسسات الدولة، وهي نفسها التهمة التي وجهها نداء تونس مراراً وتكراراً إلى راشد الغنوشي.

والحقيقة هي أن راشد الغنوشي لم يفعل شيئاً سوى تشكيل تحالفات وتقديم تنازلات، وكانت تكلفة ذلك باهظة. لقد تنازل عن إدماج كلمة الشريعة في سبيل الحصول على دستور، وصوت ضد قانون كان من شأنه أن يقصي أعضاء النظام القديم ويحرمهم المشاركة في الانتخابات، وبذلك مهد الطريق لإلحاق الهزيمة الظاهرة بحزبه. لقد آثر التوصل إلى دستور للبلاد على تحقيق إنجاز في الانتخابات، بل لقد ذبلت شعبيته بين أتباع حزبه في سبيل ذلك، وتعرض لما يسميه أبناء حركته محاولة انقلابية ناعمة.

ولكن النهضة تلعب لعبة أكبر على مدى ابعد. لقد قلبت هذه الانتخابات رأساً على عقب تهمة الإقصاء السياسي التي كانت توجه إليها. فحينما فازت حركة النهضة في انتخابات 2011 بتسعة وثمانين مقعداً، استلموا منصب رئاسة الوزراء ولكنهم تخلوا عن جائزتين سياسيتين مهمتين أخريين، رئاسة الدولة ورئاسة البرلمان، تركاهما للأحزاب العلمانية. لم يكونوا يحتاجون لذلك لأنهم كانوا الحزب الفائز بامتياز، وكان الفرق في انتخابات عام 2011 بين الأول والثاني 60 مقعداً.

هذه المرة لا يزيد الفرق بين الأول والثاني في الانتخابات البرلمانية عن 16 مقعداً لصالح نداء تونس الذي لا يبدو أنه راغب في إشراك الآخرين معه في الجوائز. ولذلك فالسؤال هذه المرة ليس ما إذا كانت النهضة إقصائية، وإنما ما إذا كان نداء تونس إقصائياً.
هل سيحاول الفائز أن يحوز على كل شيء هذه المرة؟ هل سيتعامل مع النهضة كقوة سياسية مشروعة؟ الكثير سيتوقف على الإجابة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق