وثائقي "في سبع سنين".. كيف وصلنا إلى هنا؟
جاسم سلطان
كاتب ومفكر قطري والمدير العام لمركز الوجدان الحضاري
لم يُثر أيُّ فيلم وثائقي عربي ضجة -من قبل-ُ بالقدر الذي أثاره الفيلم الذي أنتجته وعرضته قناة الجزيرةبعنوان "في سبع سنين". وهو فيلم رصد واستعرض حالات لشبابٍ وفتيات من مصر مروا بتجربة ثورة الربيع العربي، فتغيرت حياتهم من مسارٍ إلى مسارٍ آخر مضاد.
منهم فتيات بدأن من فكرة سلفية وانتهين إلى الإلحاد، ومنهم شباب بدأ من عضوية جماعة الإخوان وانتهى به الحال إلى الإلحاد. والبعض الآخر ابتدأ من السلمية وانتهى إلى حمل السلاح مع الجماعات المقاتلة في سوريا أو سيناء.
شاهدت الفيلم وراودتني أسئلة كبرى، فظاهرة الغلو وحمل السلاح هي نتيجة لغلو استبدادي سياسي كبير في المنطقة، وظاهرة الإلحاد هي ثمرة لحيرةِ مجتمعاتٍ شبابُها يبحث عن إجابات لأسئلة دينية وسياسية واقتصادية حائرة.
والإلحاد -بشتى مستوياته من الإنكار الصريح إلى الشك وعدم اليقين- يجتاح العالم العربي بقوة، والمناظرات لا تكاد تنقطع في وسائل الإعلام حول ذات الموضوع.
"شاهدت الفيلم وراودتني أسئلة كبرى، فظاهرة الغلو وحمل السلاح هي نتيجة لغلو استبدادي سياسي كبير في المنطقة، وظاهرة الإلحاد هي ثمرة لحيرةِ مجتمعاتٍ شبابُها يبحث عن إجابات لأسئلة دينية وسياسية واقتصادية حائرة"
والأمر الطبيعي هو أن ينقسم الناس بشأن موضوع السياسة والدين، لأنهما لا يقعان في دائرة البديهيات العقلية ولا التجريبيات الصرفة. وغاية ما يقوله الفيلم هو أنه انتقل من حدس شخصي بوجود ظاهرة ما، إلى قراءة تقرير عن الحالة الدينية في المنطقة، إلى أخذ عينات بعدد أصابع اليد من تلك الحالات، أجرى معهم مقابلات وترك تقدير الموقف للمشاهدين.
ظهرت في الفيلم دعاوى مهمة، صريحة وضمنية، وهي ما هيج شجون البعض لردود كان حافزها ربما ما يطرحه الفيلم من:
- دور الخطاب الوثوقي التنظيمي التسطيحي لفكرة النصر، والذي كذبه الواقع في كل مكان، وهو خطاب ما زال مسيطرا على الساحة حتى اليوم.
- فكرة التنظيم الموازي للدولة في طرحه السلمي، وعجزه -بعد أن اصطدمت به الدولة بقوتها الخشنة- عن الدفاع عمن قام بحشدهم وتعبئتهم.
- فكرة الدولة الإسلامية الموعودة في خطاب الإسلاميين حين ترجمتها "داعش"، ومن قبلها ربما إيران والسودان، وما هدمته من طوباوية خلقها الطرح الإسلامي السائد.
وأخيرا؛ ارتكزت الردود على التهوين والتهويل من ظاهرة الإلحاد، أو على تسخيف عقول الشباب أو تشخيصهم كمرضى صرف! أو حتى على تسويق ذاتي بامتلاك الإجابات الشافية الكافية، أو استدعاء فكرة إقامة حد الردة عليهم كما طرحه البعض، وامتد الأمر إلى المُخرج وفريق الفيلم والجزيرة و... و... إلخ.
- المنطقي أن هؤلاء الشباب جاؤوا من بيئات دينية، وطرحوا أسئلتهم على المؤطرين والمشايخ الذين لقوهم، وجالوا بين مواقع الإنترنت، فبقيت الحيرة رغم الجهد والبحث، فحزموا أمرهم في اتجاه محدد ومضوا فيه.
- وهم على كل حال في سن صغيرة ومسار التحولات وارد في حياة البشر في كل لحظة.
كل ذلك ليس هو مربط الفرس فيما أعتقد؛ فالفيلم كشف لنا اختلالات كبرى في الفضاء المحيط بنا، سأجملها في التالي:
- ما زالت ظاهرة إنكار التحولات الكبرى في العصر -والتي تتجسد في اتساع دائرة الحرية واستحالة سماع الصوت الواحد وسيطرته- تسكن الكثير من العقول، رغم أن الواقع الحي يصرخ بذلك.
"الفيلم وما أثاره من حوارات بشأن أزمة الاستبداد السياسي، وما كشف عنه من عجز الخطاب الإسلامي الحركي التنظيمي وسطحيته، وهلامية التجسد الواقعي للدولة "الإسلامية" ومباينته لليوتوبيا الموعودة؛ كل ذلك -رغم مأساويته- مؤشر على قدوم عصر جديد، وإجابات جديدة لواقع استنفد ذخيرته من الأجوبة المعلبة"
- دعوى امتلاك أجوبة قطعية في مسائل من طبيعتها الاحتمالية والترجيحية أمرٌ غريب، ولكنه ما زال واضحا عندنا.
- ما زالت ظاهرة الوصاية والاستعلاء، وادعاء امتلاك الحق الحصري في فهم النصوص؛ ظاهرةً مؤلمة ومنتشرة ومنفرة.
- ظاهرة استسهال التكفير قائمة عندنا، رغم الفواجع التي قادت إليها على أرض الواقع.
- ظاهرة تسخيف وتجهيل المخالف والمختلف ظاهرةٌ تحتاج إلى كثير من الدراسات.
ها نحن مِن عمَل وثائقي واحد نكتشف جوانب من الشخصيات والأفكار تتجاوز حدود شخصيات الفيلم، إلى المحيط الذي يطوّق شبابنا ويحاورهم، وهو محيط مُفزع أكثر من شخصيات الفيلم، إن كانت مفزعة عند البعض.
الفيلم وما أثاره من حوارات بشأن أزمة الاستبداد السياسي، وما كشف عنه من عجز الخطاب الإسلامي الحركي التنظيمي وسطحيته، وهلامية التجسد الواقعي للدولة "الإسلامية" ومباينته لليوتوبيا الموعودة؛ كل ذلك -رغم مأساويته- مؤشر على قدوم عصر جديد، وإجابات جديدة لواقع استنفد ذخيرته من الأجوبة المعلبة.
الشكر موصول لفريق الفيلم ولقناة الجزيرة على أن سلطت الضوء ليس على مشكلة الشباب فحسب، بل وأيضاً على أزمة من يحيطون بهم من أفراد ومؤسسات وأفكار، هي في الحقيقة ما يحتاج إلى بحث وتحليل عميق، وليس الشباب وطاقم الفيلم والجزيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق