28 فبراير, 2019
يَقُول الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [البقرة : 34]. وَمَعْنَى الآية العظيمة: واذكر -أيها الرسول- للناس تكريم اللّه لآدم حين قال سبحانه للملائكة: اسجدوا لآدم إكرامًا له وإظهارًا لفضله، فأطاعوا جميعًا إلا إبليس امتنع عن السجود تكبرًا وحسدًا، فصار من الجاحدين باللّه، العاصين لأمره.
عند قراءته لهذه الآية، انْبَلَجَ لجيفري لانج أنَّّ هذا الشيطان المتمرِّد لَنْ يقف عند هذا الحد، بَلْ سَيُوَسْوِس للنَّفس البشريَّة. ولهذا فإنَّ تعرُّفنا عليه، سيمكننا مِنْ فِقْهِ تأثيراته الشَّيطانيَّة، دون أن نَغْفَل تَكَبُّرِهِ وَحِقْدِهِ وَإصْرَارِهِِ عَلَى عدم السُّجُود! هذا يدفعنا للتَّفكير والبحث عن مَجْلَبَة وَمَصْدَر كُلِّ هَذِهِ الشُّرُور؟
في الحَياة اليوميَّة غالبًا مَا نَجد المَال والطَّمع. لَكِنَّ القرآن الكريم يُخبرنا بأنَّ الماديَّات لَيست دائما هِيَّ السَّبب، بَل مَرْكَز الشَّر هوَّ التَّكَبُّر. بَينما لُبّهُ وَجَوْهَرهُ أن تضع نفسك فوق الجميع، وَتَتَأَلَّه، فَتعطي نفسك أولويَّة خاصَّة، وتلغي حقوق الأخرين. لِتصبح الأنانيَّة الشيطانيَّة كالكبر والحسد محرك للشَّر ومُغَدِّيه، وَمُسَوِّغٌ دَافِعٌ لِرَفْضِ الِإيمَان.
بالرُّجوع للآية مرَّات عديدة لاحظ جعفري لانج أخيرًا أن هُنَاكَ أمْرَان مُختلِفان يَتكرَّران في الآيات الكريمات، يستحقَّان اسْتِغْراق الذِّهْن في التَصفُّح التأمُّل والتفَكُّر، لاَ سِيَّمَا وَأَنَّ نَبْرَة الحِوار الربَّاني وَحِدَّته ليست على النَّحْوِ المتوقع؛ بمعنى أدق أنَّه لاحظ أن القرآن يَنْحُو نَحْوَ التَّقليل من شأن بعض الأحداث، إذ تَكَشَّفَ لَهُ أنَّّ الله عَزَّ وَجَلَّ ليس مُنْزَعِجًا مِن إحتمال أكْلِ آدَم عليه السلام مِن الشجرة. كما إسْتَبَانَ وَإِنْجَلَى لَهُ أنَّّ إختيَّار الشَّجرة لَم يَكُن وِفْقَ مُمَيِّزَات وَسِمَات خاصة جدًّا وفريدة. إلى أن يأتي الشَّيطان لاحقًا ليقول لِآدَم وَحَوَّاء زُورًا وَبُهْتَان، بأنها شجرة الخُلْد وَمُلْك لاَ يَبْلَى، لكنَّه ظَهَرَ وَتَبَدَّى في النهاية أن الشَّيطان كدَّابٌ لَعِين.
قَبْل الإِنتقال إلى الكلام في أي شيء يجب الإشارة إلى أمرٍ غاية في الأهميَّة لَهُ إتِّصال مباشر بما سبق. بل يعتبر مفتاح لكثير من المفاهيم، الأفكار والتَّجارب التي نقلها إلينا بكل أمانة، الدكتور جعفري لانج بخصوص تعامله مع كلام الله سبحانه وتعالى، عندما قرر أول مرة الاطلاع على ما يؤمن به المسلمون عن قرب، بل وجهًا لوجه مع كتاب لا يؤمن به، ليس عن طريق وسيط، بَلْ فَضَّلَ المواجهة، والتَّعرف، قبل الإنكار، التَّعليق، الإنتقاد، والحُكم المُسْبَق عن غير عِلم.
التدبُّر هُوَّ المفتاح والطريق إلى العيْش مع كتاب الله عَزَّ وَجَلْ، البوَّابة للوصول لما أراده المولى في كتابه من عبادة. والأسلوب الأمثل للتَّعامل مع كلام الله. ولذلك أمر سبحانه به في آياتٍ متعدِّدة، ليحُثنا على قراءة كلام الله قراءة حقيقيَّة، مستشعرين فيها ما يريده رَبُّ العِزَّة مِن عِباده. فإذا جاءت آيات الوَعْد تأخذنا بالاستبشار والتَّحفيز والعمل ونحو ذلك. وإذا جاءت آيات الوَعِيد فإنها تُنَفِّرنا مِن المعصية، وتدعونا إلى الخوف مِن الحساب والعقاب، ومراقبة الله والرجاء في عفوه ومغفرته. وإذا جاءت آيات التوحيد، تُرَسِّخ التوحيد والإيمان والعقيدة في قلوب المتفكِّرين.
إذًا بالتدبر نعيش حقيقة التلاوة إنطلاقا من ثلاثة أركان أساسية: وهي حضور القلب، مصداقًا لقوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد : 24]. ومعنى الآية الكريمة أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ القرآن ويتفكرون في حججه؟ بل هذه القلوب مغلَقة لا يصل إليها شيء من هذا القرآن، فلا تتدبر مواعظ اللّه وعبره. ثَانِيًّا النظر وإعمال الذِّهْن للوقوف على حقائق القرآن مصداقا لقوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء : 82]. ومعنها أفلا ينظر هؤلاء في القرآن، وما جاء به من الحق، نظر تأمل وتدبر، حيث جاء على نسق محكم يقطع بأنه من عند اللّه وحده؟ ولو كان مِن عند غيره لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.
وأخيرًا يأتي الرُّكن الثالث: وهو القصد، قصد الإنتفاع، قصد الاهتداء، قصد التذكُّر، ويدل عليه قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص : 29]. بمعنى هذا الموحى به إليك – أيها الرسول – كتاب أنزلناه إليك مبارك؛ ليتفكروا في آياته، ويعملوا بهداياته ودلالاته، وليتذكر أصحاب العقول السليمة ما كلفهم اللّه به. فجعل سبحانه التذكر نتيجة للتدبر فدل على لزوم هذا القصد في أول التدبر.
يَرْوِي جيفري لانج: نظرت إلى هذه الآية المباركة وقلت في نفسي؛ حسنًا لقد فهمنا لمذا خلق الله سبحانه وتعالى الملائكة! نعم خلقهم لتدفع البشر في إتجاه الخير. ولكن لمذا القصة أظهرت الشيطان؟ أي دَوْرٍ سيقوم بِه هذا الشيطان اللعين؟ بالطبع بَعْدَ التدبُّر نَصِل لمدلول القصة، التي تخبرنا بأن هناك جانبًا يدفع الإنسان للخير، وآخر يدفعه للشَّر. بشكل آخر القرآن نَبَّهَنَا إلى أن الإنسان ليس مجرد كائن مُتَعَلِّم، ولكنه كائن أخلاقي أيضًا. عنده القدرة على معرفة الصواب والخطأ، والله سبحانه وتعالى يَدَع هذه المؤثِّرات ويسمح لها أن تأتيه. إذًا الإنسان ليس كائنًا زَكِيًا فحسب، بَلْ هو كائن أخلاقي كذلك. ولهذا نَجد أن كلام الله ليس بكتاب يصعب علينا فهمه، بل كل ما علينا فعله هو قراءته وتدبره بكل حُبًّ وجِدِّيَّة، طَالما كُنَّاصادقين مع الله عز وجل ومع أنفسنا، متوكلين عليه وراجين منه العون، السَّداد، الرحمة، والتَّوفيق.
إذن الإنسان كائن أخلاقي، كما أنه في نفس الوقت كائن مُتعلم، وهناك آية قرآنية كريمة آخرى تقول: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[الحجر : 29]. بمعنى فإذا سوَّيته وأكملت صورته ونفخت فيه الروح، فخُرُّوا له ساجدين سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة. وفهم جيفري لانج أن روح الله عز وجل قد تكون الضمير والأخلاق، كل القوانين نتأثر بها، وربنا سبحانه خلقنا كذلك، نتأثر بالقوانين. ويقول أيضًا: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس : 9]. بمعنى قد أفلح من زكَّى الله نفسه، فكثَّر تطهيرها من الكفر والمعاصي، وأصلحها بالصالحات من الأعمال. ثُمَّ الآية التي تليها: (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس : 10]. ومعناها: وقد خاب في طِلبته، فلم يُدرك ما طلب والتمس لنفسه مِن الصلاح مَنْ دساها يعني: من دَسَّس الله نفسه فأَخْمَلها، ووضع منها، بخُذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصِيَ، وترك طاعة الله. يقول جيفري لانج قلت في نفسي: أي من دمر ويدمر نموه وتزكية نفسه، بمعنى أدق الإنسان ليس فقط مخلوقًا ذو قدرات عقلية عظيمة، ولكن لديه أخلاق أيضًا.
يواصل الدكتور الإطلاع على قصة سيدنا آدم، فيتوقَّف عند قوله تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : 35]. ومعنى الآية وقال اللّه: يا آدم اسكن أنت وزوجك حواء الجنة، وتمتعا بثمارها تمتعًا هنيئًا واسعًا في أي مكان تشاءان فيها، ولا تقربا هذه الشجرة حتى لا تقعا في المعصية، فتصيران من المتجاوزين أمر اللّه.
مرة أخرى جيفري لانج يسْرد لنا عن تجربته مع هذه الآية القرآنية العظيمة، وكيف أنها شغلت عقله وتفكيره، من النظرة الأولى، وجعلته يتعجب من قوة وقعها على قلبه. يقول: قلت في نفسي هل بدأ القرآن في العودة للقصة القديمة؟ ويؤكد أنه فعلًا حصل له تشويش داخلي رهيب.
وقتها كان في مقتبل العمر، شاب عمره ثمانية وعشرون سنة، ولد وترعرع في أسرة مسيحية متدينة جدًّا. وانطلاقًا من هذه الخلفية الدينية التي أتى منها وتعلم منها أشياء كثيرة، رغم أنه عند قراءته للقرآن الكريم كان ملحدًا لا يؤمن بأي شيء، إلا أنه تعرف بكل وضوح ودقة الاختلاف الكبير والعظيم بين قصة آدم عليه السلام في القرآن الكريم، ونظيرتها في الديانة السابقة التي تربى عليها، لدرجة أنه أصبح مهتم لدرجة لا تصدق، وحريص جدًّا على فهم كلام الله سبحانه وتعالى فهمًا صحيحًا يليق بمقامه، وجلال سلطانه.
هنا يقف الدكتور جيفري لانج ليؤكد أنه لم يسخر من أحداث القصة أبدًا رغم إلحاده وقتها، ورغم اختلافها تمامًا في أمور جوهريه عظيمة وكبيرة جدًّا مع ديانته السابقة التي نشأ في كنفها، لكنه حاول جاهدًا فهم وإظهار الفروق الشاسعة والمتباعدة بعد الشمس على الأرض، إذ على خلاف دينه الأول، الدين الإسلامي والقرآن الكريم في هذا الجزء من الآية: (وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). يبدو الحوار الهادئ جدًّا مثير جدًّا ومحفز لدرجة خيالية، لمعرفة ما يقدمه لنا القرآن الكريم في الآيات اللاحقة.
لقد وقف مذهولًا شاخصة أبصاره من هذا الحوار الرباني الهادئ، وكيف لا يبدو على الله سبحانه وتعالى الخوف أو القلق تمامًا كما قدمه دينه السابق، وكما تعرف عليه وتعلمه في طفولته، بل على العكس من ذلك؛ القرآن الكريم فقط يحذر آدم عليه السلام، أي بمعنى أعمق الإنسان، ويعلمه ويوعيه أنه إن أقدم على فعل ذلك، سيكون قد أذنب وظلم نفسه. إذًا كل هذا يجعلك أي القرآن مرة أخرى، ومن خلاله آياته الكريمة المباركة تدرك بقلبك وعقلك وجميع حواسك أن الله سبحانه عز وجل واثق تمامًا مما يفعله، وأنه سبحانه وتعالى خالق كل شيء، العزيز القدير، الجبار القوي، الرحيم بعباده.
ثم يقول عز وجل في الآية التي تليها: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ) [البقرة : 36]. ومعنها أن الشيطان أوقعهما في الخطيئة: بأنْ وسوس لهما حتى أكلا من الشجرة، فتسبب في إخراجهما من الجنة ونعيمها. وقال اللّه لهم: اهبطوا إلى الأرض، يعادي بعضكم بعضًا -أي آدم وحواء والشيطان- ولكم في الأرض استقرار وإقامة، وانتفاع بما فيها إلى وقت انتهاء آجالكم.
يروي لنا جيفري لانج تفاصيل دقيقة وشعوره عند قراءته لهذه الآية أول مرة، حيث إنه وجد فيها الكثير مما يخطف الأنظار ويجلب الإنتباه، أول هذه الأمور هي أن الشيطان تسبب في حدوث زلة آدم عليه السلام وزوجه، هذه الآية العظيمة شلت عقل الدكتور جيفري لانج وتفكيره، وجعلته غير قادر بأي حال من الأحوال على تجاوزها وإخراجها من عقله وتفكيره.
لَا بُدَّ أَن المُتَدَبِّر لكلام الله سبحانه وَتعالى يحتاج إلَى العِلْم بمسائل الإيمان وَالعقيدة وَأعمال القلوب، عُلُوم تَخُصُّهُ وَيَنْبَغِي لَهُ الاهتمام بها، وأن يقرأ فيها حَتَّى يَرْسَخ عِلْمه بها، هذا العِلْم العظيم هُوَّ الَّذِي يجعل الإنسان يَتَعايَش مع القرآن الكريم، يَصِل بِهِ إلَى مراتب الإحسان والتَزكيَّة؛ لِأَنَّه يتِيح لَنَا التَّعرُّف عَلَى أسماء الله عَزَّ وَجَلْ، ومعانيها، وآثارها، والإحساس العميق بالمحبَّة، الخوْف، الإجلال، التَّعظيم، الرَّجاء، وغيْرها مِنْ أعمال القلوب، الَّتِي يعيش معها الإنسان في كتاب الله مُعَايَشَة إيمانية قلبِيَّة. أيضًا مِنَ العُلُوم المُهِمَّة التِي تساعد على التَدَبُّر، نَجِد علُوم اللُّغة، لأنَّ القرآن الكريم نزل بلسان عربي مُبِين، وَالمُفْرَدَة القرآنية عَجِيبَة فِي أسرارها، وكذلك عِلْم البلاغة، لأَنَّ القرآن بَلَغَ الغايَة مِنَ البلاغة وأسرارها، من الحذف، الإيجاز، القسم، التقديم والتأخير.
دون أن نَنْسَى علوم علم أصول الفقه، علوم التفسير الموضوعي، وعلم أصول التفسير، لأننا نفهم من خِلاَله دلالات، كدلالة المفهوم، دلالة الإشارة، دلالة المنطوق، دلالة الالتزام. أصول التفسير مهمة جدًّا للمفسر أو للمتدبر، لأننا نعرف من خلالها أبواب الفهم لكتاب الله عَزَّ وَجَلْ، منهج السَّلف، وقواعد التفسير؛ لأن لها علاقة وطيدة بقواعد التدبُّر، وعليه فإن تدارس القرآن الكريم يلزمه الكثير مِنَ المعرفة اليقينِيَّة الدقيقة للتدبر من حيت أهميَّته، ومقدِّماته، وحقيقته، ومراتبه، ونتائجه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق