الفاتيكان ومؤتمر فضائح الشواذ
أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
أستاذة الحضارة الفرنسية
يتواصل مسلسل الفضائح الجنسية التي هزت أركان الكنيسة الفاتيكانية منذ قديم الأزل، وخاصة منذ تم فرض "قانون التبتل" على العاملين بها سنة 1139 في مجمع لاتران الثاني. فهو قرار بشري بحت، مثل كافة نصوصها، تم اتخاذه من أجل أطماع مادية بشرية بحتة. وتلاه مجمع ترانت سنة 1545 ليؤكد نفس القرار بل ويدين من يقول: "ان اطار الزواج أفضل من التبتل، فيجب لعنه كنسيا". وأن تلعنه الكنيسة يعنى: ان لا مكان له في المجتمع المسيحي..
أما السبب الحقيقي لهذا القرار فيرجع الى ان الكنيسة قديما كانت تعتمد على الهبات وعلى الإستحواز. وعند وفاة القس ـ بأى رتبة كان، كان الأبناء او الزوجة يطالبون بأموال الأب او الزوج. وهو ما كان يمثل ضياع أموالا متنوعة مما كانت تستحوذ عليها الكنيسة ويعود للقطاع المدني. فتم فرض التبتل على الكادر الكنسي، غير ان ذلك لا يمنع ان هناك العديد بين مختلف الرتب بل والبابوات المشهورين بتاريخهم الغارق في الشذوذ بأنواعه.. وما أكثر المراجع التي تناولت هذه الفضائح، التي طالت حتى هيبة المسيحية كدين من خلال فضح ملامحها الثقافية والإجتماعية والقانونية والدينية..
فالوضع الذي تواجهه الكنيسة هي مأساة متعددة الجوانب، منها: تكوين القس، الذي عليه ان يتجاهل كافة مطالبه الجسدية ؛ أزمة القانون الكنسي ومختلف المؤسسات الكنسية في إدارة مثل هذه الفضائح اذ ان المتبع هو قانون التعتيم بكافة الوسائل ؛ المعاناه الإنسانية متعددة الجوانب التي تقع على المعتدى عليهم وتجاهل الكنيسة لها..
وكم تم تكوين العديد من اللجان حينما تفجرت هذه الفضائح المأساوية في الكثير من البلدان قديما وحديثا. أما في هذا العصر فنذكر على سبيل المثال: في استراليا اصدر الحاكم العام، كوانتان برايس، سنة 2012 ، قرارا بفتح التحقيقات، واتى التقرير الصادر 15/12/2017 في سبعة عشر مجلدا.. وكذلك التقرير الصادر في مقاطعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة وتم نشره في 14/8/2018 حيث أدان اكثر من 300 كنسيا من مختلف الرتب بالإعتداء على اكثر من 1000 ضحية، ثم اعيد فتح القضية ليصل التقرير الى 1356 صفحة، أما التحريات نفسها فقد بلغت وثائقها 500000 صفحة.. والفضيحة الأكبر في هذه المأساة كانت المبالغ الطائلة التي دفعتها الكنيسة لإحتواء الأحداث ومنع الأهالي أو الضحايا من اللجوء للقضاء أو للبوليس، والأكبر منها: صمت القبور الذي كانت القيادات الفاتيكانية تتبعه لتهريب الجناه وافلاتهم من المحاكمة لأن جرائمهم تمس كافة الرتب بلا استثناء..
لذلك اضطر البابا فرانسيس الى عقد مؤتمر يضم 200 من رؤساء الكنائس في جميع انحاء العالم لتدارس موضوع "كيفية حماية الأطفال"، المنعقد من 21 الى 24/2/2019. وهو عنوان أبعد ما يكون عن صلب الموضوع، إذ تناسى البابا موضوع المجرمين المنحرفون وتم التركيز على "حماية" الأطفال.. لأن خط سير الأحداث يؤكد ان الحلول الجذرية التي كان يتوقعها العقلاء، وهى إدانة صريحة للكنسيين المنفلتين وإلغاء قانون التبتل، فلن يتم المساس بها بتاتا..
وذلك لأن العبارة الرئيسية وهي "الشذوذ الجنسي" وخاصة "الشذوذ الجنسي في الكيان الكنسي"، كانت غائبة من وثائق المؤتمر ومن الكلمة الإفتتاحية للبابا فرنسيس، مثلما غابت من النقاط الواحد والعشرين التي تم توزيعها على الحضور في بداية الجلسة الإفتتاحية، لحصر الحوار في نطاقها فقط.. وهو ما يعني اغتصاب الحقوق الاساسية للمعتدى عليهم والتلاعب بالقوانين لكي لا تصدر إدانة قانونية للنظام الكنسي الخاص بالتبتل، وإنما مجرد ادانة تنظيمية للموضوع، لا معنى لها، إذ لا تأثير لها على القضية الرئيسية.
ومع كل التجاوزات بل وبعض التهم التي وُجهت حديثا للبابا شخصيا، في تقرير مونسنيور فيجانو الذي اتهمه شخصيا، ستنتهي القمة الفاتيكانية وقد خرج منها البابا برجوليو غير متمتع بدور القائد للكنيسة الكاثوليكية، وإنما جالسا في قفس الإتهام، لصمته وتعتيمه على العديد من الشواذ، الذين أحاط نفسه بهم وهو يعلم، أو غض الطرف عما يمارسونه من جرائم لم تعد خافية.. خاصة لو أخذنا في الإعتبار ما أعلنه السبت رينهارد ماركس، رئيس الأساقفة الألماني بوضوح: "ان الإدارة الفاتيكانية قد أعدمت العديد من الملفات التي كانت ستثبت التهم الموجهة الي أصحابها"، وذلك في المداخلة الطويلة التي قالها، مضيفا: "فبدلا من إدانة المجرمين الحقيقيين فالضحايا هم الذين تلقوا اللوم وتم فرض الصمت عليهم".. ومن الواضح ان أصداء هذا المؤتمر ستأتي بالكثير من المفاجآت..
الموضوع في الإعلام
ما اكثر ما تم نشره في الآونة الأخيرة من كتب جادة تتناول هذه القضية الأساس في الكيان الكنسي، ومن أهم هذه المراجع التي تعتمد على الوثائق كتاب فردريك مارتل، تحت عنوان "سودوما" باللاتينية، أى "سدوم"، تلك المدينة التي هدمها الله على من بها في القرن التاسع عشر ق. م. لفساد قاطنيها.. والكتاب عبارة عن تحقيق موثق من داخل أقبية الفاتيكان، استغرق أربعة أعوام من البحث والتنقيب، يصل الى ستمائة صفحة تؤكد: "ان الفاتيكان هو اكبر نادي للشواذ في العالم، اذ ان 80 % من رجاله، من القاعدة للقمة منحرفون، ومنهم عدة بابوات، حتى الحالي".. لذلك يقوم هذا الكيان بالتعتيم على كل المتورطين فيه وحمايتهم من المحاكمات المدنية.
ولم يتورع الكاتب عن توجيه تهمته هذه لأعضاء الكيان الفاتيكاني فحسب، وانما تناول كل ما هو تقليدي في الكنسة، خاصة عقيدتها الأخلاقية وبرنامجها الكنسي ومحرماتها الجنسية وخاصة الحياة المزدوجة لأولئك الذين يكوّنون مجتمع الشواذ في الفاتيكان ومؤسساته. فالكنيسة في نظره هي "مؤسسة جنسية شاذة في المقام الأول لأنها تفرض التبتل، وهو أمر ضد الطبيعة البشرية. كما تناول قضية اغتصاب الراهبات التي اقرها البابا فرانسيس وهو عائد من رحلته في أبو ظبي.
ويأتي هذا الكتاب كأكبر وثيقة اتهام للكنيسة الكاثوليكية في كيانها وفي تعاليمها. والقضية هنا أشبه ما تكون بالشرخ الذي احدثه دان براون بروايته الشهيرة "دافنشي كود"، سواء من حيث جدية الإتهامات الموجهة بالوثائق، أو الحملة المضادة التي قادها الفاتيكان لمنع الرواية او التعتيم عليها.. واللافت للنظر ان دار نشر لافون، التي طبعت هذا الكتاب/الوثيقة، الذي يقع في 630 صفحة، تبنت ترجمته الى ثمانية لغات، وحددت موعد صدوره في عشرين دولة، في نفس يوم افتتاح المؤتمر الذي أعده البابا، يوم 21 فبراير..
وخط الهجوم الأساس في هذا البحث ليس موجها ضد الشذوذ في حد ذاته بقدر ما يقصد به "أولئك الدجالين الكاثوليك الذين يعيشون بوجهين بإتباع قوانين لا إنسانية، وضعها بشر، مثل كل نصوصهم، لأغراض شخصية".
ولم يفت الكاتب تخصيص فصلا حول موضوع "البذخ غير المعقول وغير المنطقي الذي يعيشون فيه، خاصة تلك الثياب والأردية الحريرية التي ترتديها الدرجات القيادية من الكنسيين، وتحديدا تلك المزركشة بالتطريز والدنتللا ،التي يتميز بها عاهرات عليا القوم، ويخفون تحتها ما يمارسونه من مجون"..
وانتهى المؤتمر
وبعد أربعة أيام من المناقشات الحادة أو الفاضحة، ألقى البابا فرانسيس خطابه الختامي الذي اتى محبطا للجميع، بل انه يكشف عن التوجه الحقيقي لهذا الكيان الكنسي ولمن يترأسه. أربعة أيام متتوالية توقع فيها الجميع الإستماع الى قرارات وحلول حاسمة، خاصة وقد تضاعفت فيها الشهادات والإدانات حول الجرائم التي تم ارتكابها لمدة قرون وخاصة في العصر الحديث، لا من القساوسة وحدهم وإنما طالت كافة الدرجات والرتب.
ولم يلتفت البابا الى مختلف التقارير حتى الصادرة من هيئة الأمم، ولا من اللجنة التي عينها، ولا لإعترافات الأساقفة الذين اقروا بأنهم كذبوا وقاموا بحماية المعتدين بنقلهم أو ترقيتهم في وظائف أعلى.. لم يتمخض خطاب البابا فرانسيس عن تفاهة ما فولد فأراً، لكنه اعطى صفعة قاضية لكل المجتمع الإنساني قائلا ما معناه "أنتم مدانون جميعا، أنتم أكثر قذارة مننا"..
فلقد أطاح البابا بكل التطلعات وراح يستعرض كيف ان الشذوذ الجنسي متغلغل في العالم.. في جميع القطاعات الإنسانية، وفي المجتمعات المختلفة، وفي الأسرات بطبقاتها، وفي المدارس، والأوساط الرياضية، مؤكدا باصرار: "إذن، نحن أمام مشكلة عالمية طولا وعرضا، وهي بكل أسف موجودة متوغلة في كل مكان"..
وأفلت الفاتيكان بمن فيه لتتواصل الجرائم فالمجتمع بكله مدان..
زينب عبد العزيز
25 فبراير 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق