المرتبكون لا يخوضون معركة
كان خطأ قاتلًا للثورة المصرية، في بداياتها، أنها قبلت اللعب على أرضٍ ليست نظيفة، وبقواعد ليست عادلة، ولا تحمل أية فرصةٍ للفوز.
في استفتاء التاسع عشر من مارس/ آذار 2011، كان جمهور الثورة رافضًا منطق اللعب، معترضًا على الذهاب إلى استفتاءٍ على تعديلات دستور حسني مبارك الذي أسقطته الثورة، فيما كان الموقف المعلن هو: لا لترقيع دستور ساقط، ولابد من دستورٍ جديدٍ يعبر عن الثورة.
كان ذلك موقفًا يصلح للحشد الثوري، لإحباط عملية تمرير دستور مبارك، معدّلًا أو مرقّعًا، غير أن قيادات الثورة، بدلًا من أن ترفض وتقاطع هذه العبثية في إدارة الثورة عسكريًا، قرّرت الخضوع والمشاركة في استفتاءٍ رأته استخفافًا بالثورة، فاستدرجت إلى معركة لا ضد نعم، ولمّا كان أصحاب"نعم"يتحكّمون في الملعب والحكم والجمهور، فقد جاءت النتيجة هزيمة أولى للثورة في مفتتح معاركها.
شيءٌ من هذا، مع فوارق كثيرة، يجري حاليًا فيما توصف بأنها "معركة" تعديلات دستور عبد الفتاح السيسي، إذ يتم الحشد للمشاركة بالتصويت ضد هذه التعديلات، التي هي في طريقها للمرور، في ظل هيمنة السلطة على كل قواعد اللعب، وفي غيابٍ تام لقوة منافسة حقيقية، وانصرافٍ كامل للجمهور على وقع شعور عام باللاجدوى.
والأخطر من ذلك أنهم يريدون الذهاب إلى المنافسة متأخرًا للغاية، وبعد أن حسم الأمر تقريبًا، ناهيك عن غياب الرؤية الاستراتيجية للمعسكر الرافض هذه التعديلات، الأمر الذي ينعكس في صورة تناقضاتٍ تكتيكيةٍ لإدارة ما تسمى "معركة".يتجسّد هذا التناقض المرتبك في تبدل المواقف، من رفض قاطع للاقتراب من الدستور، بوصفه وثيقةً مقدسةً لا يجوز التلاعب فيها، إلى قبول بتعديلاتٍ لبعض المواد، ورفض أخرى، كما تجلى في تغريدات الدكتور محمد البرادعي التي بدأت بالرفض الواضح للمساس بهذا الدستور، ثم اتخذت صيغةً أكثر ليونةً بإعلان موقف آخر بأن بعض التعديلات مشروعة، وبعضها الآخر غير مشروع.
هذا يعني أن لا موقف مبدئيًا هناك، وأن هناك استسلامًا للشروط التي وضعتها السلطة للعبة، على نحو يذكّر بالأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية في استفتاء 2011 الشهير، بين الرفض المطلق لمنطق التعديلات، ثم القبول المشروط، وأخيرًا الاستسلام للسائد والمشاركة التي نتجت عنها خسارة المعركة من جانب، ومنح هذا العبث شرعيةً قانونيةً وثوريةً من جانب آخر، ما أدى إلى دخول الثورة نفقًا مظلمًا، ظلت تتخبط فيه حتى انتهى الأمر إلى إدانة الثورة ذاتها واعتبارها غلطةً لن تتكرّر، أو جريمة يعاقب عليها أصحابها حتى الآن.
في وسط هذه الأجواء العبثية، صار التمسّك برواية الأحداث والوقائع كما جرت مزايدة سياسية، في نظر بعض المتحمسين لدفع الناس إلى المشاركة، وقول "لا" للتعديلات. ووصل الأمر ببعضهم إلى توصيف التصدّي لتعديلات السيسي على دستور السيسي رفضًا للانقلاب على الشرعية..
وهنا ثمّة مفارقةٌ منطقيةٌ ساخرةٌ وغير مفهومة أو مقبولة، إذ أن مشروع السيسي ونظامه يجسّدان المعنى الحرفي للانقلاب على الشرعية الحقيقية، من أجل تأسيس شرعية أخرى بالقتل والقمع والإقصاء والإبادة، فكيف يمكن الاعتداد بقداسةٍ أو جدارةٍ قانونيةٍ وأخلاقية لدستورٍ وضعه مغتصبو سلطة بقوة السلاح؟
إن أحدًا لا يمانع في صياغة مشروع وطني جديد للوقوف أمام محاولة دسترة الطغيان والاستبداد، لكن هذا يستلزم شروطًا، أولها الإجابة عن سؤال تأسيسي: هل نحن بصدد خلافٍ مرحليٍّ مع هذا النظام، يتعلق بجزئية العبث الدستوري فقط، أم هناك قناعة حقيقية بأن ثمّة تناقضًا جذريًا مع هذا النظام، يتجاوز العبث بالدستور إلى قضايا أخطر، في مقدمتها التفريط في الأرض، والهدر الكامل للدماء، والقتل المنهجي للحريات وحقوق الإنسان، والتبعية لكل من يتربّصون بهذا الوطن؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق