"مجلس العموم العباسي بين التاريخ المنسي والفكر
المتناسي"
بقلم أ.د. حاكم المطيري
٩/ ٦/ ١٤٤٠هـ
١٤/ ٢/ ٢٠١٩م
كل من يتحدث عن "الخلافة الإسلامية" اليوم سواء من أدعيائها أو أعدائها لا يكادون يعرفون من تاريخها الدستوري ومؤسساتها شيئا أكثر مما تعرفه عجائز البصرة اليوم!
فهم لا يعرفون من تاريخ الخلافة والدولة في الإسلام -التي قامت على أسس الدولة النبوية ثم الخلافة الراشدة- إلا تاريخ الخلفاء! لا أنها نظام سياسي راسخ الأركان، ثابت الأسس، له منظومة دستورية، استطاعت أن تؤسس لأعظم أمة موحدة ودولة قارية عرفها التاريخ الإنساني مدة ألف وثلاثمئة عام!
وقد حاولت في كتابي "ملحمة الخلافة" أن أجلي هذا النظام السياسي وأحكامه ومنظومته الدستورية الذي طمست معالمه، وغابت ملامحه، حتى عمّن تصدى لدراسته، كالأستاذ الفاضل د. محمد الشنقيطي في كتابه "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية" الذي افتتحه بمقدمات خاطئة حيث يقول: (ولعلَّ أهم ظاهرة مُطَّردة في ثمرات الصراع بين معسكرِ الملك الذي مثله الأمويون وحلفاؤهم ...، ومعسكر الشوري الذي مثله علي بن أبي طالب وكبار الثوار...؛ هي انتصار الدولة المُنظَّمةِ ولو كانت ظالمة على القوى السياسية الفوضوية ولو كانت عادلة)!
وانتهى فيه إلى خطيئة جائرة إذ يقول (الخيار العلماني مستحيل إسلامياً، والخيار السلفي مستحيل إنسانياً، والحل هو المنهج الإسلامي التركيبي الذي يجمع بين الديني والمدني)!
فإذا كان هذا هو مبلغ علم كاتب إسلامي متخصص في هذا المجال! فما بالك بمن هم دونه من المثقفين من ضحايا خطاب علي عبدالرازق (لا خلافة في الإسلام)، ممن يتلقفون هذه الأوهام والشبه لتصبح عندهم حقائق، وأسرى الحضارة الغربية الصليبية الذين يتوهمون بأن التاريخ والمستقبل قد وقف عند بابها، وخر على أعتابها، فيعودون على أمتهم وتاريخهم بالحسرات وذم الذات!
إن تصوير أزمة الأمة السياسية المعاصرة -التي هي حصرا نتاج المحتل الغربي وحملته الصليبية وأنظمته وجماعاته ونخبه الوظيفية- بأنها نتاج فتنة الجمل وصفين! وتجاهل تاريخ ١٣ قرنا من تطور نظم الخلافة السياسية والدستورية منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة حتى أواخر العهد العثماني -الذي عرف المسلمون فيه المشروطية (الدستور) والمبعوثان (مجلس النواب) وانتخابات البلديات المحلية والقضائية ١٨٧٥م حتى سقطت تحت جحافل الحملة الصليبية المعاصرة- لهو جناية على التاريخ والفكر معا قبل أن يكون اعتداءً على الأمة ذاتها واستلاب خيريتها التي شرفها الله بها وشهد لها به أعداؤها ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾، وكما تواتر في الصحيحين وغيرهما عن أكثر من عشرة من الصحابة عن النبي ﷺ قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم) وفي رواية: (ثم الذين يلونهم) الرابعة!
لقد كانت الثورة العباسية نفسها سنة ١٣٢ للهجرة على السلطة الأموية - التي لم تدم متواصلة أكثر من ٦٠ سنة من ٧٣ هـ إلى ١٣٢هـ- ثورة شعبية عامة، شاركت فيها الأمة في أكثر أقاليم الخلافة، ونجحت الأمة في استعادة السلطة؛ ولهذا تحولت بعدها الخلافة والدولة من النظام المركزي للسلطات التي تميزت بها السلطة في العهد الأموي، إلى نظام غير مركزي، تم فيه تقاسم السلطات مع كل قوى المجتمع التي شاركت في الثورة، فتم استحداث "نظام الوزارة"، الذي أوكل للموالي من غير العرب، وكان أبو حسن الخلال أول وزير بعد الثورة، كما عرفت هذه الفترة "دار العامة" كمؤسسة سياسية شعبية، ومجلس رقابي عمومي، يشارك فيه العامة في شئون الدولة، بعد أن كان المسجد النبوي في عهد النبوة والخلافة الراشدة هو مجلس شورى العامة، وكان ذلك تطورا طبيعيا بعد اتساع الخلافة في هذه الفترة اتساعا كبيرا يتعذر معه اتخاذ جامع بغداد مكانا للشورى، فكانت "دار العامة" هي المؤسسة الجديدة، والتي باتت من أهم المؤسسات، التي تشهد مناقشة أهم القضايا العامة؛ كما في عقد هارون الرشيد لولديه الأمين والمأمون بولاية العهد وجلوسه في "دار العامة" للبيعة لهما، كما ذكره ابن الجوزي في المنتظم ٩/ ٦٦.
وكما ذكر الطبري في تاريخه ٩/ ٥٦ في خبر خروج المعتصم للروم وفتح عمورية بعد اعتدائهم على المسلمين في زبطرة وبلوغ خبر الاعتداء للمعتصم سنة ٢٢٤هـ (واستعظم المعتصم ذلك، فذكر أنه لما انتهى إليه الخبر بذلك صاح في قصره النفير، ثم ركب دابته، فلم يستقم له أن يخرج إلا بعد التعبئة، فجلس في "دار العامة"، وقد أحضر من أهل مدينة السلام قاضيها عبد الرحمن بن إسحاق، وشعيب بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده، وثلثا لله، وثلثا لمواليه ثم عسكر بغربي دجلة، وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى).
وحضور هذا العدد المحصور من العدول وهم ٣٢٨ رجلا برئاسة قاضي بغداد، في مثل هذا الخطب الجسيم، يؤكد خطورة دور "دار العامة" التي تمثل برلمانا شعبيا، يُشهد الخليفة أعضاءه على قراراته وتصرفاته، كما أن معرفة عددهم بكل دقة دليل على أنهم أعضاء محصورون مشهورون في تمثيل العامة وفق نظام محدد!
كما كان يجري في "دار العامة" التحقيق مع الولاة ممن يشتكي الناس منهم، كما ذكر الطبري في تاريخه ٩/ ١٤١ عن قدوم أهل طرسوس ووالي المظالم فيها سنة ٢٣١ إلى "دار العامة" في بغداد لماقشة قضيتهم حيث قال (ذكر عن أحمد بن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم- وكان خادم الرشيد، وكان قد نشأ بالثغر- أن خاقان هذا قدم على الواثق، وقدم معه نفر من وجوه أهل طرسوس وغيرها يشكون صاحب مظالم كان عليهم، يكنى أبا وهب، فأحضر، فلم يزل محمد بن عبد الملك الزيات يجمع بينه وبينهم في "دار العامة" عند انصراف الناس يوم الاثنين والخميس، فيمكثون إلى وقت الظهر، وينصرف محمد بن عبد الملك وينصرفون، فعزل عنهم).
كما كان يبايع فيها الخلفاء ويتشاور فيها في شأن ألقابهم كما ذكر الطبري ٩/ ١٥٤ في خبر بيعة المتوكل سنة ٢٣٢ بعد وفاة الواثق (فجاء فجلس، فألبسه أحمد بن ابى دواد الطويلة وعممه وقبله بين عينيه، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! ثم غسل الواثق وصلي عليه ودفن، ثم صاروا من فورهم إلى "دار العامة"، ولم يكن لقب المتوكل.. واجتمعوا بعد ذلك على اختيار لقب له، فقال ابن الزيات: نسميه المنتصر بالله، وخاض الناس فيها حتى لم يشكوا فيها..).
وكان يحضر "دار العامة" أشراف الناس ورؤسهم وفق مراتبهم، وكان العامة في بغداد ربما ثاروا احتجاجا على قرارات السلطة فحاصروا "دار العامة"، وقطعوا الطريق عليها، وربما اقتحموها ونهبوا ما فيها، كما ذكر الطبري في ٩/ ٢٥٦ في خبر خلافة المستعين بالله أحمد بن محمد بن المعتصم، والخلاف الذي جرى بين أنصاره ومعارضيه من أنصار المعتز بالله العباسي (فبايعوه وقت العشاء الآخرة من ليلة الاثنين، لست خلون من شهر ربيع الآخر من السنة، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس.
فاستكتب أحمد بن الخصيب، واستوزر أوتامش فلما كان يوم الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر صار إلى "دار العامة" من طريق العمري بين البساتين، وقد ألبسوه الطويلة وزي الخلافة، وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه الحربة قبل طلوع الشمس، ووافى واجن الأشروسني باب العامة، من طريق الشارع على بيت المال، فصف أصحابه صفين، وقام في الصف هو وعدة من وجوه أصحابه، وحضر الدار أصحاب المراتب من ولد المتوكل والعباسيين والطالبيين وغيرهم ممن لهم مرتبة، فبينا هم كذلك، وقد مضى من النهار ساعة ونصف، جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق فإذا نحو من خمسين فارسا من الشاكرية، ذكروا أنهم من أصحاب أبي العباس محمد بن عبد الله، ومعهم قوم من فرسان طبرية وأخلاط من الناس ومعهم من الغوغاء والسوقة نحو من ألف رجل، فشهروا السلاح، وصاحوا:
يا معتز يا منصور.. ونشبت الحرب بينهم، وأقبلت المعتزية والغوغاء يكبرون، فوقعت بينهم قتلى كثيرة، إلى أن مضى من النهار ثلاث ساعات ثم انصرف الأتراك وقد بايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم، وانصرفوا مما يلي العمري والبساتين، وأخذ الموالي قبل انصرافهم البيعة على من حضر الدار من الهاشميين وغيرهم وأصحاب المراتب وخرج المستعين من باب العامة).
كما كانت "دار العامة" تضم ممثلين عن كل فئات المجتمع وفق نظام محدد، يتم من خلاله اختيارهم أو فصلهم، فكان من أعضائها من كان ممثلا عن بني أمية والعثمانية كتيار سياسي، كما ذكر الطبري ٩/ ٢٧٦ في حوادث سنة ٢٥٠ ففيها (أسقطت مرتبة من كانت له مرتبة في "دار العامة" من بني أمية، كابن أبي الشوارب والعثمانيين).
فقد كانت "دار العامة" مؤسسة سياسية منظمة، وفق مراتب محددة، تمثل كل فئات المجتمع!
وقد كان مبنى "دار العامة"، يضم "دار الوزراء" ومجلسهم، ويضم "دار الدواوين"، ويتم اختيار أفخم القصور في بغداد لهذه الدار العامة التي هي بمثابة مجمع لمؤسسات الدولة الشعبية والسياسية والإدارية، كما ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ١/ ٤٢٤: (كانت "دار المملكة" التي بأعلى المخرم، محاذية الفرضة قديما لسبكتكين غلام معز الدولة، فنقض عضد الدولة أكثرها، ولم يستبق إلا البيت الستيني الذي هو في وسط أروقة، من ورائها أروقة، في أطرافها قباب معقودة، وتنفتح أبوابه الغربية إلى دجلة، وأبوابه الشرقية إلى صحن من خلفه بستان ونخل وشجر. وكان عضد الدولة جعل الدار التي هذا البيت فيها "دار العامة"، والبيت برسم جلوس الوزراء، وما يتصل به من الأروقة والقباب مواضع الدواوين..
قال هلال: وهذه الدار وما تحتوي عليه من البيت المذكور والأروقة خراب.
ولقد شاهدت مجلس الوزراء في ذلك ومحفل من يقصدهم ويحضرهم، وقد جعله جلال الدولة اصطبلا أقام فيه دوابه وسواسه، وأما ما بدأه عضد الدولة وولده بعده في هذه الدار فهو متماسك على تشعثه.
قلت: ولما ورد طغرلبك الغزي بغداد واستولى عليها عمر هذه الدار، وجدد كثيرا مما كان وهي منها في سنة ثمان وأربعين وأربع مائة، فمكثت كذلك إلى سنة خمسين وأربع مائة، ثم أحرقت وسلب أكثر آلاتها، ثم عمرت بعد وأعيد ما كان وهي منها).
وحين نقلت دار الخلافة إلى سامراء انتقلت "دار العامة" إليها، وفيها تم عقد البيعة للخليفة المعتز بعد خلع المستعين بالله الذي نزل إلى بغداد، ووقع الصراع بين العاصمتين سامراء وبغداد، ومؤسسات الخلافة في كل منهما، كما قال البغدادي في تاريخ بغداد ٢/ ٤٨٧ (بويع المعتز "بسر من رأى" عند خلع المستعين.
خرج أحمد الإمام المستعين بالله أمير المؤمنين من "سر من رأى" يوم الأحد لخمس خلون من المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين إلى بغداد، فوثب أهل "سر من رأى" فبايعوا لأبي عبد الله المعتز بالله.
قال أبو بشر: وأخبرني أبو موسى العباسي، قال: لما أنزل المعتز بالله من لؤلؤة وبويع له، ركب إلى أمه وهي في القصر المعروف بالهاروني، فلما دخل عليها وسألته عن خبره، قال لها: قد كنت كالمريض المدنف، وأنا الآن كالذي وقع في النزع، يعني أنه قد بويع له "بسر من رأى"، والمستعين خليفة مجتمع عليه في الشرق والغرب.
وقال أبو بشر: أخبرني علي بن الحسن بن علي، قال: لما سأل الأتراك المستعين بالله الرجوع إلى "سر من أرى" فأبى عليهم، قدموا "سر من رأى" يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم، فاجتمع الموالي وكسروا باب لؤلؤة، وأنزلوا المعتز بالله فبايعوه وخلعوا المستعين، فركب المعتز بالله إلى "دار العامة" يوم الخميس في المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين، فبايعه الناس، وعقد لنفسه لواء أسود، وخلع على إبراهيم المؤيد بالله، وعلى أحمد المعتمد على الله، وعلى أبي أحمد الموفق، وأنهضه إلى بغداد مطالبا بيعته التي أكدها له المتوكل على الله في أعناقهم، ومعه جماعة من الفقهاء، فشخص أبو أحمد يوم السبت لسبع بقين من المحرم، وحصن محمد بن عبد الله بن طاهر بغداد، ورم سورها، وأصلح أبوابها.
وعسكر أبو أحمد بالشماسية ووقع الحرب يوم السبت للنصف من صفر، واتصلت الوقائع.
قال أبو بشر: وسمعت جعفر بن علي الهاشمي، يقول: بويع المعتز يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم، وتوجه أبو أحمد بن المتوكل على الله إلى بغداد في عشرة آلاف من "سر من رأى"، فواقع أهل بغداد فقتل من الفريقين خلق عظيم، وكانت هذه السنة فتنة المعتز والمستعين.
قال: وأخبرني أبو موسى العباسي، قال: لما وجه المعتز بالله أخاه أبا أحمد الموفق فحصرهم، وأقام المستعين بالله بغداد إلى أن خلع سنة، واشتد الحصار على أهل بغداد، وقد كان أهل بغداد لما دخل إليهم المستعين أحبوه ومالوا نحوه غاية الميل، حتى نزل بهم من الحصار ما نزل، ونسبوا محمد بن عبد الله بن طاهر إلى المداهنة في أمر المستعين بالله، وهاجموا منزله يريدون نفسه.
قال: وأخبرني علي بن الحسن بن علي، قال: شرع في خلع المستعين بالله، فوثبت العامة على محمد بن عبد الله بن طاهر، وتذمرت عليه، ونقل المستعين بالله من داره إلى الرصافة.
قال: وأخبرني أبو موسى العباسي، قال: فدس محمد بن عبد الله بن طاهر إلى المستعين بالله من يعرض له بالخلع على أنه يتوثق له من المعتز بالله ويسلم إليه الأمر، وكان المستعين بالله رجلا صالحا ضعيفا، فأجاب المستعين بالله إلى ذلك وكره الدماء بعد أن لم يجد ناصرا.
قال: وأخبرني جعفر بن علي، قال: خلع أحمد المستعين بالله نفسه من الخلافة في المحرم أول سنة اثنتين وخمسين ومائتين).
وقد كانت الدار تفتح أيضا للعامة من غير أعضائها؛ كما جرى حين ثاروا على الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر حين أراد خلع المستعين بالله والبيعة للمعتز، كما ذكر الطبري في تاريخه ٩/ ٣٣٨ (فلما أصبحوا وافوا الباب، فصاحوا، فصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطلع إليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه لهم، فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة، وابن طاهر إلى جانبه، فحلف لهم بالله ما اتهمه، وإني لفي عافية ما علي منه بأس، وإنه لم يخلع، ووعدهم أنه يخرج في غد يوم الجمعة ليصلي بهم، ويظهر لهم فانصرف عامتهم بعد قتلى وقعت، ولما كان يوم الجمعة بكر الناس بالصياح يطلبون المستعين..
وأعلم ابن طاهر فأذن لهم بالنزول فأبوا، وقالوا: ليس هذا يوم نزولنا عن ظهور دوابنا حتى نعلم نحن والعامة ما نحن عليه، ولم تزل الرسل تختلف إليهم، وهم يأبون، فخرج إليهم محمد بن عبد الله نفسه، فسألهم النزول والدخول إلى المستعين، فأعلموه أن العامة قد ضجت مما بلغها وصح عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتز، وتوجيهك القواد بعد القواد للبيعة للمعتز، وإرادتك التهويل ليصير الأمر اليه وإدخاله الأتراك والمغاربة بغداد، فيحكموا فيهم بحكمهم فيمن ظهروا عليه من أهل المدائن والقرى، واستراب بك أهل بغداد.
واتهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم، وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذبوا ما بلغهم عنه فلما تبين محمد بن عبد الله صحة قولهم، ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجيجهم سأل المستعين الخروج إليهم، فخرج إلى "دار العامة" التي كان يدخلها جميع الناس، فنصب له فيها كرسي، وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه، ثم خرجوا إلى من وراءهم، فأعلموهم صحة أمره، فلم يقنعوا بذلك، فلما تبين له أنهم لا يسكنون دون أن يخرج إليهم- وقد كان عرف كثرة الناس- أمر بإغلاق الباب الحديد الخارج فأغلق، وصار المستعين وأخواله ومحمد بن موسى المنجم ومحمد بن عبد الله إلى الدرجة التي تفضي إلى سطوح دار العامة وخزائن السلاح، ثم نصب لهم سلاليم على سطح المجلس الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله والفتح بن سهل، فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد، وفوق السواد برده النبي ﷺ ، ومعه القضيب، فكلم الناس وناشدهم، وسألهم بحق صاحب البردة إلا انصرفوا، فإنه في أمن وسلامة، وإنه لا بأس عليه من محمد بن عبد الله، فسألوه الركوب معهم، والخروج من دار محمد بن عبد الله لأنهم لا يأمنونه عليه، فأعلمهم أنه على النقلة منها إلى دار عمته أم حبيب ابنة الرشيد، بعد أن يصلح له ما ينبغي أن يسكن فيه، وبعد أن يحول أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ماله في دار محمد بن عبدالله، فانصرف أكثر الناس، وسكن أهل بغداد).
كما كان الخلفاء يعقدون في "دار العامة" للولاة ويخلعون عليهم فيها الخلع التشريفية كما ذكر الطبري ٩/ ٣٥٦: (ثم ركب المعتز إلى "دار العامة"، وعقد لبغا ووصيف على أعمالهما).
وكما فعل الخليفة المعتمد سنة ٢٦١هـ؛ كما ذكر الطبري ٩/ ٥١٤: (وفيها لاثنتي عشرة مضت من شوال منها، جلس المعتمد في "دار العامة"، فولى ابنه جعفرا العهد، وسماه المفوض إلى الله، وولاه المغرب، وضم إليه موسى بن بغا، وولاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان ومهرجانقذق وحلوان، وولى أخاه أبا أحمد العهد بعد جعفر، وولاه المشرق، وضم إليه مسرورا البلخي، وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان وقم والكرج والدينور والري وزنجان وقزوين وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والسند، وعقد لكل واحد منهما لواءين: أسود وأبيض، وشرط إن حدث به حدث الموت وجعفر لم يكمل للأمر، أن يكون الأمر لأبي أحمد ثم لجعفر وأخذت البيعة على الناس بذلك، وفرقت نسخ الكتاب، وبعث بنسخة مع الحسن بن محمد بن أبي الشوارب ليعلقها في الكعبة، فعقد جعفر المفوض لموسى بن بغا على المغرب في شوال وبعث إليه بالعقد مع محمد المولد).
كما كان الخلفاء يجلسون في "دار العامة" للنظر في المظالم كما روى الخطيب البغدادي في تاريخه ١١/ ٢٧١ عن (صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي، قال: حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين رحمة الله عليه، وقد جلس للنظر في أمور المتظلمين في "دار العامة"، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وينشأ الكتاب عليها، ويحرر ويختم، ويدفع إلى صاحبه بين يديه، فسرني ذلك، واستحسنت ما رأيت منه)!
لقد كانت هذه الحضارة الزاهرة التي دامت ١٣٠٠ سنة نتاج نظام سياسي ودستوري وأحكام تشريعية حفظت على الأمة رسالتها وهويتها وسيادتها ونهضتها، حتى إذا سقطت؛ سقط معها كل شيء، ولن تكون الدول الوظيفية التي فرضها المحتل هي البديل عنها، ولن يكون النظام الدولي المزعوم، والسلم العالمي الموهوم، هو نهاية التاريخ، فما زال أمام الأمة وعد حق، لم يتحقق بعد، حتى تعود خلافة راشدة على منهاج النبوة، وحتى تفتح بإذن الله روما كما فتحت القسطنطينية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق