الحصار الجديد على قضية فلسطين والبديل التضامني
لعل المرحلة الحالية التي تمر بها قضية فلسطين هي الأسوأ منذ انطلاق الكفاحين، المدني والفكري، لإيقاظ العالم على المظلمة الكبرى، بعد نجاح الفكرة الموحدة بين الصهيونيتين الإسرائيلية والأميركية، في خنق صوت الضمير العربي والتضييق على أي تضامنٍ عالمي، ووضع سلسلةٍ من العوائق أمام منابره، ثم تشكيل ثقافة فوبيا، ترهب أي كلمةٍ تنتصر للقضية بمعيار إنسانيٍّ صرف، فضلاً عن أنه يكون عربيا أو إسلاميا، لخصوصية القضية لكلا البعدين.
مجمل التحولات في الوطن العربي، والتي اشتد وثاقها بعد الحرب المضادّة للربيع العربي، تكرّست أخيرا، نحو فكرة التحالف مع المشروع الإسرائيلي، وليس التقارب معه فقط، ومن الدلالات المهمة لأحداث المرحلة اندماج المشروع الصهيوني مع بنية الثورة المضادة التي قادتها أبوظبي، ومجمل القوى المناهضة لحركة الربيع العربي، وحماسها المتواصل ضد محاولات الحرية العربية. وهو في الحقيقة تجسيد دقيق لكيف تتحول الديمقراطية، ومفاهيم التقدّم الحقوقي وحرية الرأي والحق الدستوري التي يحلم بها أي شعب إلى ضحايا لتحالفات القمع، وهو ما يفضح الموقف التاريخي من الديمقراطية، والذي ظل الغرب يدافع به عن إسرائيل، مع الأخذ بالاعتبار أن هذا التحالف الذي ترعاه واشنطن يحظى بدعم مواقف رسمية غربية مماثلة.
ما تعرّضت له المنطقة، من تفويج إعلامي ودبلوماسي ضخم، تقاسمت أنظمة عربية عديدة المسؤولية فيه، لترسيخ هيمنة المشروع الإسرائيلي في الجغرافيا التاريخية، والتبرير السياسي له، تزامن مع حملةٍ إعلاميةٍ منظمة لا تزال تتفاعل، وهي ترويج الفكرة الصهيونية ذاتها، المناهضة للإنسان العربي، المستبيحة حقوقه، عبر المشروع السياسي الجديد. وهناك من استخدم الأزمة الخليجية وانحطاط إعلامها جسرا لترويج ثقافة التحالف بين الخليج ومصر مع الإسرائيليين، ضد أعداء عروبةٍ موهومين، مناصرين لفلسطين، وبالتالي فما دام أولئك العرب يكرهوننا، فلماذا لا نحب إسرائيل ونشاركها مشروع حصارهم! وقد أضيف هذا الملف إلى ملف توظيف المشروع الإيراني على المنطقة، وهو مشروعٌ نافذ وعالي الكراهية والطائفية، وبلوى تسعى بين شرائح كل وطن، فتفرّق وحدته ونسيجه الاجتماعي، فضلا عن آثار المشروع على الصعيد السياسي، وتنمية الحروب وفقدان الاستقلال القومي لصالح إيران، لكن هذا التوظيف العربي الرسمي لم يوقف يوماً مشروع إيران، بل لم يوقف ما يتم التوافق عليه، في استراتيجية المصالح بين تل أبيب وطهران التي جُسّدت على الأرض في إسقاط العراق واحتلاله، وفي تثبيت نظام الأسد وإسقاط الثورة السورية.
نجح هذا الزخم في تفويج المشاعر، وفي التأثير السياسي، ولذلك خسرت حركة حماس من شعبيتها، عبر العودة الاضطرارية إلى محور إيران، كما خسرت، باعتبارها حركة وقاعدة شعبية، من البرنامج الذي استهدف البنية المدنية والإنسانية للشعب الفلسطيني في غزة، وهو مشروعٌ لم يقف عند "حماس" ولا قاعدتها، وإنما امتد بتحفز وتصاعد موتور جديد، لمنع وصول أيٍّ من المساعدات الإنسانية، وللتضييق على قطاع غزة في ميادين التعليم والصحة والإعاشة الغذائية.
كما أن استهداف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) يتجاوز مسألة "حماس" وقاعدتها الشعبية إلى كل فلسطيني يمكن أن تساهم أي مساعدات في إبقاء روحه وكفاحه، أو مجرّد صموده كإنسان. ما يجري هو محاربة أصل الفكرة التي تقوم عليها العدالة البشرية ومواثيق الأمم المعاصرة، فالشعب حاضرٌ بين عيني العالم، مشرّد أو لاجئ أو مضطهد تحت الاحتلال، بلده.. أرضه.. زيتونه، وسجل تضحيات إنسانه كلها تشهد على وطنٍ محتل، أخرج تقتيلاً وتشريداً، ومنائر "الأقصى" في أذانها، وناقوس كنيسة القيامة يضج بفلسطينيتها، فلماذا تعوّض أوروبا جريمتها ضد المدنيين اليهود، بطرد شعبٍ آخر، وسلب حريته وتشريده.
هنا باتت هذه الثقافة، والموقف المبدئي، تحت المطاردة والاستهداف، ومع مصادرة خطوط الدعم في الجمعيات الخيرية الإسلامية التي أنهت آخر فصولها تحت قصف الأزمة الخليجية، فإن ثقافة الدعم الإنساني المجرّد باتت تحت الحصار والتجريم والتعقب، من المحور الجديد الذي دمج إسرائيل، مع دول الخليج ومصر، ويسعى إلى التوسع.
فكرة المقاومة لشعب محتل لم يكن أحد يجرؤ على إعلان تجريمها، ما دامت ضمن خطوط القتال المشروعة، ولا تمسّ المدنيين. أما الوضع اليوم مع فلسطين، فإن الحسابات قد تغيّرت، وقد تُفتح المطاردة الإعلامية والقانونية على كل متضامن، حتى لو أسند إنسانياً، بسبب دعمه أهل فلسطين، وبات هذا الأمر مرصوداً في أوروبا وأميركا الشمالية، فيما تتكفل آلة الأمن العربية بمشاعر العرب.
من المهم اليوم أمام هذا الحصار العمل على وضع منظومة تصور استراتيجي للدعم، تعزّز التعاضد والتكاتف، لعدة تيارات وجغرافيا عالمية بين الجنوب والشمال العالمي، تتحرّك في إطارٍ إنسانيّ، وتستفيد من كل صوتٍ ومنبر أممي، لإسناد التضامن الأخلاقي مع العدالة الفلسطينية، وهو ما يحتاج أن يبتعد عن أي صورة أيدولوجية، ولو كان من يقوم بالكفاح في سبيل فلسطين ينتمي أكثرهم لها. وهذا لا يعني تخلي الناس عن معتقداتهم، ولكن الميثاق الجديد يعتمد على جمع العالم على فكرةٍ، لا يختلف أي ضمير إنساني سليم عليها، لفلسطين حرّة من الاحتلال، وشعبٍ له الحق في العودة إلى وطنه. وعليه تطلق ورش العمل والفعاليات تحت هذا الشعار، وتنفتح على كل الأطياف، كما أن الاستراتيجية البديلة تحتاج أن تخرج عن الجدل الشعبي الذي تسعى أنظمة خليجية إلى بثه، في فكرة صراعٍ بين فلسطين والشعب الخليجي، فهي فكرةٌ باطلة من الأساس، لكنها تُسعّر بإساءاتٍ مسيسةٍ تستدرج بها المشاعر.
لا يقوم الإيمان بالعودة الحتمية إلى فلسطين على الضجيج، أو وعظ الناس بأنها قضية مقدسة، وبالتالي لا عليكم، فالله سيتكفل بها، فهذا تفسيرٌ خاطئ لمقاصد الشريعة. إن روح العمل والتجديد، في سبيل إبقاء القضية المشروعة وكفاحها، لا يتم إلا بالعمل المباشر، لبقاء القضية العربية الإسلامية حيّةً بين عهود الأجيال، بعد أن تنجو من رماح المستبدّين والسموم الصهيونية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق