جحيم القوانين.. ما لم يخبرك به "الشقيري" عن اليابان
عبد المنعم فتيان
باحث
في رحلتي الأخيرة قمت بزيارة اليابان، البلد الذي يسمع عنه المرء الكثير. كنت متحمساً لرؤية هذا البلد بعد مشاهدة عدة حلقات من برنامج خواطر لأحمد الشقيري الذي كان يصف هذا المكان بكوكب اليابان لشدة إعجابه به. وصلت العاصمة وكنت معجباً بما رأيت من قطارات منظمة، شوارع نظيفة، ناطحات للسحاب، أسواق تحت الأرض وصولاً لسكان نظيفي الملابس يحبون الأناقة ومهذبين. مع مرور الوقت وبحكم أنني أحب التدقيق بدأت بملاحظة تفاصيل هذا المجتمع.
عند سؤال المارة عن الاتجاهات أو كيفية حجز بطاقة مواصلات فالغالب أن لا أحد يتردد بالمساعدة بل من الممكن أن يسير معك الشخص عدة مئات من الأمتار ليوصلك إلى المكان الذي تسأل عنه حتى ولو كان بعكس اتجاه مساره. أما عند حصول خطأ أو تأخير فيبدأ الشخص بالاعتذار أكثر من مرة للتعبير عن أسفه. هذا اللطف والسلوك الراقي تم زرعه وترسيخه على مدى عقود في شخصية المواطن الياباني ولكن هذا السلوك يبدأ بإظهار عيوبه عند الاحتكاك اليومي بالسكان.
التربية اليابانية تقوم على فكرة تخريج مواطنين أشبه ما يكونون بالروبوتات المطيعة ذات السلوك الملائكي التي تفعل ما يطلب منها ولا يسمح لها بالخطأ |
فعند التجول في بعض الحدائق ترى أن المواطنين يسمح لهم بالمرور بممرات محددة فقط دون أخرى وتستطيع أن ترى أن الجميع ملتزم بهذه التوجيهات وإن صادفت شخصاً خلال مرورك في هذه الممرات فإنه سيقوم بإفساح الطريق لك أما الأب الياباني سيحاول أن يوجّه ولده للابتعاد عن طريق ابنك ليفسح له المجال للمرور، للوهلة الاولى قد يعجب المرء بهذا التصرف ولكن لا يخفى على أحد أن هذا التصرف سيكوّن لدى الطفل الياباني شعوراً بأن عليه الالتزام بالقانون بكل حذافيره وأن يتخلى عن حقه للغير في أغلب الأحيان.
أما عندما يتوقف المرء تائها في مكان ما فتجد أن غالبية المارة لا تكترث به إن لم يقم بسؤال أحدهم، فكل شخص ينظر أمامه فقط متجاهلاً ما حوله وهو يهرول للوصول إلى وجهته، بمعنى آخر المواطن الياباني يحاول تجنب أي طارئ لا يعتاد عليه، هذه الظاهرة تراها متجلية عند وقوع حادثٍ ما فترى المواطن الياباني لا يستطيع أن يتخذ قراراً سريعاً يعالج به الأمر بل يبقى يستشير من حوله ومن هو أعلى منه رتبة أو يحاول تمرير الأمر لشخص آخر حتى لا يتحمل مسؤولية القرار.
وفي نهاية اليوم ترى ملاهي المقامرة والألعاب تعج بالرواد والمدينة تعج بالسكارى، وكأن الخروج من الواقع أصبح ضرورة ملحة للمواطن للتنفيس عن الضغط الكبير الذي يتعرض له طيلة النهار من تنازل عن حقوق وإظهار للسلوك اللطيف وتحمّل متطلبات العمل، وإن لم يجدِ ذلك نفعاً فسترى ظاهرة الانتحار حاضرةً بقوة للتخلص من هذا الضغط النفسي ومسجلة واحد من أعلى نسب الانتحار على مستوى العالم مع تقبل من المجتمع لهذه الظاهرة.
باختصار التربية اليابانية تقوم على فكرة تخريج مواطنين أشبه ما يكونون بالروبوتات المطيعة ذات السلوك الملائكي التي تفعل ما يطلب منها ولا يسمح لها بالخطأ. هنا نجد أن النموذج الياباني استطاع أن يطبق واحد من أفضل النماذج في العالم ولكنه قائم على توليد ضغط نفسي هائل على المواطن دافعاً به إلى الانتحار. وعليه فإن هذا النموذج تناسى أن الطبيعة الإنسانية قائمة على أن الانسان خُلق ليخطئ ويخرج عن القوانين ومن ثم يتراجع ويصلح ما أخطأ مما أنتج نموذجاً غير متكامل ومتجاهلاً للقوانين الإلهية في التدافع بين الناس وتعظيم قيمة ومكانة النفس الانسانية بالحفاظ عليها.
"لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" البقرة ٢٨٦
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق