الأربعاء، 30 أغسطس 2023

صرخات الإمام الشافعي وتاريخنا

 

صرخات الإمام الشافعي وتاريخنا

هل كان الشاعر المصري نجيب سرور يدرك وهو يكتب قصيدته المبدعة (قد آن يا كيخوت) أنه سيأتي يوم وتتحرك الجرافات لتدهس العظام والتاريخ والأحجار التي تمتد لتمثل الحضارة والثقافة والفكر؟ الكتابات التي نحتها المصريون من دمائهم ليعلموا الدنيا المقرنصات التاريخية والأعمدة الشاهقة، هل ذهب بخياله بعيدًا ليرى أصحاب القلوب الصدئة والعقول الخربة وهم يتعاملون من رفات الفقهاء وأرباب العلم والشريعة وعظامهم تئن وتطحن بهذا “البلدوزر” بلا قلب كما سائقه؟ وصاحب أمر طحن عظامنا وتاريخنا.

ساعات وأيام وأنا عاجز عن الاستيعاب والشعور، لا شيء هناك سوى الألم الذي لا يحتمل، فما من أمة أو مدنية في العالم تحتمل ما يجري في ساحة قرافة الإمام الشافعي بما تحمله من تاريخ وتراث فني معماري، بلاد كثيرة في العالم تتمنى أن يكون لديها قطعة أو قطعتان من آثار تلك المنطقة الزاخرة بالقباب، المآذن، الكتابات، الأشكال الفنية.

الكتابات التاريخية العاكسة لتاريخ أكثر من ألف عام من حرفية الكتابة العربية، منذ بنيت مقبرة السيدة نفسية حفيدة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مرورًا بمقبرة الإمام الشافعي، والإمام ورش صاحب القراءات القرآنية، والمقريزي، وهناك أيضًا مقابر الباشا التي تقع خلف قبة الشافعي وبنيت بين عامي 1805 و1815، وهي أكبر مقبرة في العالم بعد مقبرة تاج محل في الهند، وتحتوي على نوافذ ملونة، وزخارف فنية رائعة لا تقل عن القصور الملكية، وهي مزيج من التراص المعماري المملوكي والعثماني.

تاريخ ممتد لا يتم التفريط فيه من فك القبة السلطانة والمآذن أو نقلها، وهل ينقلونه بالفعل أم أن هذا “البلدوزر” الأعمى يهدم بلا رحمة ويدوس بأقدامه على عظامنا بلا هوادة؟ المنطقة تحتوي على مقابر الشعراء الكبار أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، قائد الثورة العرابية أحمد عرابي، ورفيقه شاعر السيف والقلم محمود سامي البارودي، تاريخ متواصل لكل قطعة فيها تاريخ وقيمة فنية وتاريخية سياسية وإبداعية، كيف تحولت الصورة التاريخية إلى حطام أيام وحطام حجارة متناثرة؟

هل نحذف الصور من الذاكرة كما تقول الدكتورة هبة رؤوف عزت تلميذة المفكر العربي الكبير عبد الوهاب المسيري؟ هل يستبدلون صور الذاكرة لدينا ليمحوا تاريخًا وتراثًا من أجل صورة جديدة يملؤها الصمت وبلا ذاكرة لدينا؟ أم أن وصف الصديق الشاعر أمين حداد أقرب لما يحدث؟

هدمي كل المقابر

صحي أمواتنا يشوفونا

وسعي الطرق اللي رايحة للبنايات المصونة

اعملي م الرمل والأسمنت مونة

وابني أيقونتك قزاز شبه الصابونة

واطلعي فوقها وغني

وارقصي للدنيا فرحًا أو جنونا

ارمي رملة على الفضايح

وازرعي في روسنا الشرايح

سلمينا للرعاة اللي اشترونا

دخلينا في السماجة واللجاجة

إنهم يمحون التاريخ والذاكرة، الصور والخيالات، يرمون أوراقنا التي نحتمي بها من زيف الواقع، وتخاذل التاريخ في قوالبهم الميتة التي بلا حياة ولا روح، إنهم يميتون القلوب من أجل إنسان بلا هواية ولا جذور، يقتلون من عقول القادمين وقلوبهم معنى الانتماء للأرض.

هذه المقابر ليست مجرد حافظة لعظام الأجداد، بل هي حافظة التاريخ، وهم أعداء التاريخ ليس تاريخنا فقط بل إنه تاريخ الإنسانية، أصبح الوطن يحكمه الآلاف من فضة المعدواي بطلة أسامة أنور عكاشة في رائعته (الرايا البيضاء) تلك الراية التي رفعها السفير مفيد أبو الغار على شاطئ الإسكندرية في مواجهة “بلدوزر” المعداوي.

الآن فحتى (الرايا البيضاء) غائبة عن تاريخ يمحى في أكبر مدافن في التاريخ الإسلامي بعد مدافن البقيع في المدينة المنورة وهي مقابر الصحابة الكرام، وهي حالة متفردة بين قباب المماليك والعثمانيين، ومدافن الأولياء، والنخبة السياسية والثقافية.

هذا تاريخ يمحى ولا يجد سوى تعبير الفنانين والشعراء، فأحد الفنانين المصريين عندما رأى صورة “البلدوزر” وهو يهم لهدم إحدى البوابات التاريخية مزج أسنانه بالدم، سال دم التاريخ وآنت عظام موتانا وصرخت، أما الشاعر المصري إبراهيم عبد الفتاح فصرخ مصورًا الصورة نفسها

“بلدوزر” ساند على كتف الحوش

لأ على كتفي

على ضلوعي

والباقي من جسمي بيطقطق تحتيه

باصرخ ومحدش سامع

غير جاري اللي استشهد في تلاتة وسبعين بعدي بساعتين

وشوشني وقال لي بلاش دوشة

قبرك إيه

دول هدوا المدرسة والمستوصف والجامع

معقول!

معقول تلك الكلمة التي نرددها جميعًا ونحن نقف عجزة أما “بلدوزر” القوة الغاشمة وهو يحطم عظامنا فتطقطق أجسامنا من تحته، هل رأيتم دولة أو أمة في أنحاء العالم تستبدل التاريخ بقطع الخرسانة؟ هل سيتسامح معنا التاريخ؟ يغفر لنا تكاسلنا وتخاذلنا عن إنقاذ بقايا أوراقنا التاريخية؟

كل صورة من مئات الصور التي التقطت لتلك المذبحة التاريخية فيها ما يكفي لدول أخرى كي تقيم حولها متحفًا لتعلن للعالم أنها صاحبة تاريخ، في مدن كثيرة من العالم نجد بوابة في قلب المدينة وحيدة، مجرد بوابة مثل عشرات التي هدمت بالأمس القريب في مدافن الإمام.

عمود وحيد يقف في وسط ميدان لا يحيط به أي شيء يتحول إلى مزار للسائحين، هل تتصور بوابة مقبرة فهمي باشا بارتفاعها وأعمدتها، والكتابة عليها، ومقرنصاتها، تلك البوابة ماذا لو وجدت في أستراليا أو كندا أو حتى في دولة عريقة مثل تركيا؟ ماذا ستفعل تلك الدول التي تعي معنى التاريخ مع أمثال تلك البوابة أو الأعمدة أو حتى شاهد القبر الرخامي بكتابته؟ إننا نمضي بقوة نحو الهاوية حين نصمت عن تلك الجريمة التي تجري تحت صراخات الإمام الشافعي وجيرانه من أجدادنا عبر التاريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق