السبت، 19 أغسطس 2023

نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (١٢)

 نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (١٢)

د. حاكم المطيري

﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَروا وَصَدّوا عَن سَبيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتوا وَهُم كُفّارٌ فَلَن يَغفِرَ اللَّهُ لَهُم ۝ فَلا تَهِنوا وَتَدعوا إِلَى السَّلمِ وَأَنتُمُ الأَعلَونَ وَاللَّهُ مَعَكُم وَلَن يَتِرَكُم أَعمالَكُم ۝ إِنَّمَا الحَياةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَإِن تُؤمِنوا وَتَتَّقوا يُؤتِكُم أُجورَكُم وَلا يَسأَلكُم أَموالَكُم ۝ إِن يَسأَلكُموها فَيُحفِكُم تَبخَلوا وَيُخرِج أَضغانَكُم ۝ ها أَنتُم هؤُلاءِ تُدعَونَ لِتُنفِقوا في سَبيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَن يَبخَلُ وَمَن يَبخَل فَإِنَّما يَبخَلُ عَن نَفسِهِ وَاللَّهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَراءُ وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم ثُمَّ لا يَكونوا أَمثالَكُم﴾ [محمد: ٣٤-٣٨].

بعد أن أمرت السورة المؤمنين بطاعة الله ورسوله، وعدم إحباط عملهم الصالح بعصيانه ومشاقته، كما فعل المنافقون؛ ذكّرت بما بدأت به، وهو تحذير من كفروا، وصدوا عن سبيل الله، إذا ماتوا، ولم يتوبوا من كفرهم، بالجحيم، والعذاب الأليم، وأن الله لن يغفر لهم كفرهم، وصدهم عن سبيله، إلا أن يتوبوا ويؤمنوا بالنبي ، ويدخلوا الإسلام، وهذا يعمّ كل من سبق ذكرهم سواء كفار العرب الذين حاربوا النبي ، أو اليهود الذين أزّوهم وحرضوهم، أو المنافقون الذين تواطأوا معهم سرا، أو من جاء بعدهم.

وقوله تعالى: ﴿ثم ماتوا وهم كفار﴾ قيد استثنى الله منه من تابوا وأسلموا قبل موتهم، ولو قبل الغرغرة وخروج النفس؛ لسعة رحمة الله، وعفوه، وحلمه، حيث جعل الله الإسلام له، والإيمان به، وبرسوله، توبة وكفارة لكل ما سبق من العبد من شرك، وقتل، وظلم، وزنا، كما قال تعالى بعد أن ذكر هذه الأفعال: ﴿ومن يفعل ذلك يلق أثاما .. إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما﴾[الفرقان: ٦٨- ٧٠]

وقوله: ﴿فلن يغفر الله لهم﴾ عام كقوله: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾[النساء: ٤٨]، وقيد الموت معتبر فيهما جميعا، فكل من مات كافرا بالله، أو مشركا به، غير مسلم، بعد بعثة النبي محمد ، وبلوغ الدعوة إليه، وقيام الحجة عليه، فهو من أهل النار، لا يغفر الله لهم أبدا ﴿ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط﴾[الأعراف:٤٠]، ولهذا بعث الله النبي محمدا  للناس كافة: ﴿لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾[النساء:١٦٥]، فالغاية من إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ هداية الخلق إلى صراط الله، وسبيل النجاة، وإقامة حجة الله عليهم. والغاية من اليوم الآخر هو الحساب والثواب والعقاب، وقد جعل الله الحد الفاصل بين أهل الجنة وأهل النار، الإيمان به، وطاعة رسله، كما قال تعالى: ﴿وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين﴾ [الزمر: ٧١].

فمن ادّعى بعد بعثة النبي محمد  بأن هناك دينا آخر يقبل الله عمل أتباعه، وتتحقق به النجاة لهم يوم القيامة؛ فقد جحد عموم رسالته ، ونفى الغاية من بعثته، وهذا كفر بالنص والإجماع القطعي، كما قال تعالى: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾[آل عمران:٨٥]، وليس هناك دي  ن وإسلام بعد بعثة النبي محمد  إلا الإسلام الذي جاء به، كما قال  في الصحيح: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار).

قال ابن جزي: (﴿فلن يغفر الله لهم﴾ هذا قطع بأن من مات على الكفر لا يغفر الله له وقد أجمع المسلمون على ذلك).

ثم بعد أن أخبر الله بأنه لن يغفر لمن كفروا وصدوا عن الإسلام؛ نهى المؤمنين عن الضعف والجبن عن قتالهم، وحرضهم على الثبات في حربهم، وعدم مسالمتهم قبل أن يظهروا عليهم، حتى يتحقق وعد الله لهم بالعلو والفتح والاستخلاف: ﴿فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم﴾، وعلل ذلك بأنهم ﴿الأعلون﴾ بالإيمان وبالحق الذي هم عليهم، وبوعد الله لهم بالنصر والاستخلاف في الأرض، والأعلون أيضا يوم القيامة، ﴿والله معكم﴾ وهي معيّة النصر والتأييد، والتوفيق والتسديد، ومن كان الله معه فقد كتب الله له العلو والنصر، ﴿ولن يتركم أعمالكم﴾ فكل عمل عملتموه، وجهد بذلتموه، ومال أنفقتموه؛ فقد كتبه الله، وحفظه لكم في صحائف أعمالكم، ولن ينقصكم الله أجركم وثوابكم بتحقق الظفر والغنيمة، بل يجمع الله لكم بين النصيبين، ويوفيكم الأجرين، أجر الدنيا بالظفر والغنيمة والنصر، وبالثواب والأجر، وفي الآخرة بالفوز بالجنة، فلما تحقق لهم العلو الذي وعدهم الله به في الدنيا علوا لم يتحقق لأتباع رسول من قبل، ولا للأمم قبلهم، حتى ورثوا أرض كسرى وقيصر، عُلم بأن العلو والفوز في الآخرة قد تحقق لهم أيضا بوعد الله الذي لا يخلف وعده.

والنهي عن الدعوة إلى المسالمة هنا لا تتعارض مع قوله: ﴿وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله﴾[الأنفال:٦١]، فالنهي إنما هو أن يبادر المسلمون بطلب الصلح عجزا وضعفا، وخوفا من عدوهم، مع أنهم الأعلون، والله معهم، أما إن طلب العدو المسالمة، فهنا لا حرج على المؤمنين في المسالمة إن كان لهم فيها مصلحة.

ولما حذرهم من الضعف والوهن، وبشرهم بالعلو والنصر والاستخلاف بقوله: ﴿وأنتم الأعلون﴾ حذرهم من الاغترار بالدنيا وزينتها ومتاعها، وما سيجده المسلمون بعد الفتح ﴿إنما الحياة الدنيا لعب ولهو﴾ فلا تشغلكم الرغبة في الحياة عن الجهاد في سبيل الله، وطلب الشهادة، ولا تحملكم على المسالمة للعدو عجزا وضعفا، فهي متاع قليل، سرعان ما يبلى، ولعب ولهو سرعان ما ينتهي وينسى بلا منفعة، ولا جدوى، كما هو شأن اللعب واللهو، ولا يبقى إلا ثواب الإيمان، والجهاد في سبيل الله، والعمل الصالح، والتقوى: ﴿وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم﴾ فهو الغني الذي يرزقكم ويغنيكم، وما تنفقون في سبيله من مال إنما هو لمصلحتكم وحفظ بيضتكم، ففيه عزكم ونصركم، ودفع العدو عنكم، فلا يذهب منه إلى الله شيء.

ثم استدل على أنه لا يسألهم أموالهم بأنه ﴿إن يسألكموها فيحفكم﴾ بالإلحاح وكثرة السؤال بإخراجها كلها حتى يستأصلها، فلا يبقى منها شيء لكم ﴿تبخلوا﴾ بها وتمتنعوا من دفعها له ﴿ويخرج أضغانكم﴾ وسخطتكم وكراهتكم للإنفاق لكل المال، إلا إن الله لم يفعل ذلك؛ رحمة بكم، وتيسيرا عليكم.

ثم استدل على ذلك بواقع حالهم ﴿ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله﴾، ومع تحريض الله لكم، ودعوته إياكم، إلى إنفاق ما تيسر من أموالهم للجهاد في سبيل الله، ومع ذلك ﴿فمنكم من يبخل﴾ ومن هنا للتبعيض والتقليل أفادت أن أكثر المؤمنين ليسوا كذلك، كما كان حال كل المهاجرين الذين تركوا كل أموالهم وأهليهم في مكة في سبيل الله، ﴿ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه﴾ حيث حرمها أجر الإنفاق وثوابه، وهو الغنيمة في الدنيا وما يقسم للمجاهدين منها، والجنة في الآخرة، وهو ما لا مقارنة بينه وبين ما بخل به من مال عن إنفاقه في سبيل الله، فكان قد بخل على نفسه، ﴿والله الغني﴾ عن أموالكم وإنفاقكم وجهادكم، فهو الغني المطلق فغناه من كل وجه، وعلى أكمل وجه، ودخول أل الجنس عليه لإفادة العموم والاستغراق لكل معاني الغنى، وحصرها لله، فلا غني إلا الله، ﴿وأنتم الفقراء﴾ فقرا مطلقا من كل وجه، وبكل معاني الافتقار والفاقة والحاجة، والمحتاجون إلى الله في كل شأنكم، بما في ذلك دفع العدو عنكم، فالنصر من عند الله، والرزق والمال من عنده، وأنتم فقراء إلى الله فقرا ذاتيا دائما لا تستغنون عنه طرفة عين، وهو سبحانه غني عنكم غنى ذاتيا فلا يحتاج قط إلى أحد من العالمين.

ثم توعدتهم السورة بالاستبدال ﴿وإن تتولوا﴾ عن طاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله، وإنفاق أموالكم لقتال عدوكم؛ ﴿يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ بل خيرا منكم، فلما لم يستبدل الله بالصحابة رضي الله عنهم غيرهم؛ دلّ على أنهم لم يتولوا، ولم يبخلوا، وأنهم وفوا لله بعهدهم، وصدقوا الله وعدهم؛ فنصرهم، وأعزّهم، واستخلفهم، وأخزى عدوهم، من مشركي العرب، وكفار أهل الكتاب، والمنافقين، وكانوا كما وصفهم وشهد لهم ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾[آل عمران:١١٠].

وسنة الاستبدال في هذه الأمة مطردة في كل عصر إلى قيام الساعة، فإنه ما تخلى عن الجهاد قوم من المسلمين بعد استخلاف الله لهم إلا استبدل غيرهم بهم، فكانوا خيرا منهم، وهو ما حدث للمسلمين في الأندلس حين تولوا عن الجهاد في سبيل الله، وانشغلوا بالاقتتال فيما بينهم، وموالاة النصارى والاستنصار بهم على بعضهم؛ أذلهم، ونزع ملكهم، واستبدل الله بهم المرابطين، واستخلفهم بعدهم، وأعزهم ونصرهم، فكانوا خيرا منهم. وكذا لما تخلى أهل العراق عن الجهاد وسالموا المغول؛ استبدل الله بهم أهل مصر، فسادوا بالجهاد. ولما تخلى المماليك في مصر عن الجهاد؛ استبدل الله بهم العثمانيين، فكانوا خيرا منهم وأكثر عدلا، وأشد قياما بالجهاد، فاستخلفهم، وفتحوا أوربا، وسادوا العالم بالإسلام والجهاد في سبيل الله. فلما تخلى المسلمون قبل مئة سنة عن الجهاد في سبيل الله، وسالموا عدوهم، وتولوا عن الإسلام، وأعرضوا عن شريعته؛ سلبهم الله خلافتهم، واستولت الحملة الصليبية اليهودية على أرضهم، وزال سلطانهم، وقد أوشك أن يبعث الله فيهم من هو خير منهم، ويستبدله بهم، سنة الله ﴿ولن تجد لسنة الله تبديلا﴾[الفتح:٢٣].


نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (1)

نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (١٠)


نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (١١)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق