الأحد، 27 أغسطس 2023

بدعوى تحديثها.. السيسي يشوه الوجه التاريخي للقاهرة

 بدعوى تحديثها.. السيسي يشوه الوجه التاريخي للقاهرة


فيفيان يي



ترجمة وتحرير: نون بوست

قامت الحكومة المصرية بهدم المقابر التاريخية والمراكز الثقافية وورش العمل الحرفية والحدائق، سعيًا للتجديد الحضري على نطاق واسع.

تم هدم المقابر القديمة، واختفت الحدائق ومعها الكثير من أشجار القاهرة، كما اختفى أيضًا عدد متزايد من أحياء الطبقة التاريخية الصامدة، ولكن المتهالكة، وتم تسليمها إلى المطورين لبناء مباني شاهقة خرسانية، بينما يتم دفع العائلات التي عاشت هناك طيلة أجيال، إلى ضواحي العاصمة المصرية المترامية الأطراف.

عدد قليل من المدن تعيش وتتنفس العصور القديمة مثل القاهرة، وهي مدينة صحراوية تغمرها الشمس وتختنق بحركة المرور وتكتظ بما يقرب من 22 مليون شخص، لكن الرئيس عبد الفتاح السيسي يعمل على تحديث هذه المدينة العتيقة بسرعة، فهو يحاول صقل تعقيداتها الجامحة وتحويلها إلى مكان يتسم بالتوحيد الفعال؛ حيث يتم ترويض حركة المرور، والترويج لنهر النيل كمنطقة جذب سياحي، وتنظيف الأحياء الفقيرة وإعادة إسكان سكانها في شقق حديثة. ويعتبر البناء أحد الإنجازات الرئيسية في فترة ولايته.

وأعلن السيسي في خطاب ألقاه مؤخرًا أنه “لا يوجد مكان واحد في مصر لم تمسه يد التنمية”، لذلك يجب إزالة الحجر والطوب القديم وتعويضه بالخرسانة، بينما تتموج الطرق السريعة المرتفعة الجديدة فوق المقابر القديمة، وتركَّب دعامات نحيفة مثل الأفعوانيات الرمادية العملاقة. ويمتد ممشى حديث البناء تصطف على جانبيه مطاعم الوجبات السريعة على طول نهر النيل، لكن رسوم الدخول بعيدة عن متناول العديد من المصريين، حيث يبلغ معدل التضخم الاستهلاكي حوالي 38 بالمئة سنويًا.

ممشى النيل الجديد قيد الإنشاء بحي الزمالك بالقاهرة

ويتم إنشاء الطرق والجسور والطرق الجانبية الجديدة بوتيرة كبيرة بحيث لا يتمكن سائقو سيارات الأجرة وخرائط “غوغل” على حد سواء من مواكبة ذلك. ولم يتم تجديد القاهرة فحسب، بل تم استبدالها: فالسيد السيسي يبني عاصمة جديدة ضخمة بزوايا قائمة وأبراج عالية وفيلات فاخرة، في الصحراء خارج القاهرة مباشرة.

وتبلغ التكلفة التقديرية للعاصمة الجديدة وحدها 59 مليار دولار، مع ذهاب مليارات أخرى إلى مشاريع البناء الأخرى، بما في ذلك الطرق والقطارات عالية السرعة التي تهدف إلى ربط العاصمة الجديدة بالعاصمة القديمة. وقد تم دفع معظمها عن طريق الديون، التي شلت كتلتها الهائلة قدرة مصر على التعامل مع الأزمة الاقتصادية العميقة الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا.

قبل بضعة أسابيع، وصلت جهود التحديث إلى الفسطاط، أقدم منطقة في المدينة، والتي تأسست كعاصمة لمصر قبل قرون من إنشاء القاهرة؛ حيث طرق أحد مسؤولي المنطقة باب الفنان معتز نصر الدين وطلب منه البدء في تجهيز “درب 1718” للهدم، وهو مركز ثقافي شعبي الذي أسسه في الحي قبل 16 سنة. وقال نصر الدين (62 سنة) إن الحكومة ستقوم بتوسيع الطريق خلفه لبناء طريق سريع مرتفع.

وسيختفي “الدرب”، إلى جانب بعض ورش الفخار القريبة التي يديرها حرفيون محليون منذ عقود، وبعض المساكن القريبة.

وكما يحدث غالبًا هذه الأيام في مصر – حيث تكثر القصص عن اعتداء الحفارات والجرافات الحكومية على الممتلكات الخاصة دون أي إشعار تقريبًا – كانت المعلومات حول القرار شحيحة؛ حيث قال السيد نصر الدين وأصحاب ورش الفخار إن المسؤولين المحليين لم يقدموا أمرًا مكتوبًا للهدم أو أي أوراق أخرى.

وقال محمد عابدين (48 سنة) صاحب إحدى الورش المقرر هدمها: “كل يوم تستيقظ ولا تعرف ماذا سيحدث”، وقال إن عائلته كانت تصنع الفخار في المنطقة منذ عشرينيات القرن الماضي. في حين أن بعض سكان القاهرة فخورون بهذا المشروع، ويرون أنه دليل ملموس على التقدم.

ما تزخر به القاهرة من مساحات خضراء يتم قطعها وتزفيتها بشكل متزايد
ما تزخر به القاهرة من مساحات خضراء يتم قطعها وتزفيتها بشكل متزايد

وقال أحمد موسى، مقدم البرامج التليفزيوني المؤيد للسيسي، في برنامجه مؤخرًا: :هذه هي التطورات التي كان على البلاد أن تراها”.

ويقول آخرون إنهم لم يعد باستطاعتهم التعرف على مدينتهم؛ حيث يقول ممدوح صقر، المهندس المعماري والمتخصص في التخطيط الحضري: “إذا تعرضت للغزو، فكل ما يهمك هو آثارك وأشجارك وتاريخك وثقافتك. والآن يتم تدمير كل شيء، دون أي سبب، دون أي تفسير ودون أي حاجة لذلك”.

في أغلب الأحيان، يخضع المصريون ببساطة وبلا حول ولا قوة أمام الدولة. لكن السيد نصر الدين لم يفعل ذلك؛ فقد رفع دعوى لوقف الهدم وأثار ضجة على وسائل التواصل الاجتماعي. وقالت البلدية إنها تعيد النظر في الخطط، لكنها لم تذكر متى سيتم اتخاذ القرار النهائي أو من سيتخذه.

عادة ما يشرف الجيش المصري القوي على بناء الطرق والجسور والمشاريع الكبرى مثل العاصمة الجديدة. وكان الجيش هو الذي رفع السيسي، الجنرال السابق، إلى السلطة في سنة 2013 وسط احتجاجات حاشدة بعد الإطاحة بأول رئيس منتخب ديمقراطيًّا في البلاد، والذي تولى منصبه بعد انتفاضة الربيع العربي في البلاد سنة 2011.

ويقول سكان القاهرة، والذين اتصلوا بالمسؤولين الحكوميين للرد على المشروع، إن المسؤولين يميلون إلى تجاهل نصيحة الخبراء وتجاهل مخاوف السكان المحليين. وفي حالات قليلة فقط تمكن دعاة الحفاظ على الآثار من إنقاذ الآثار التاريخية.

وقد أدى انتشار المشاريع التي تقودها المؤسسة العسكرية إلى ظهور عبارة ساخرة: “ذوق الجنرالات”، مما يعني ضمنيًا أن هناك امتعاض تشوبه بهجة في بعض الأحيان.

ورشة فخار داخل المركز المجتمعي  “درب 1718” بمنطقة الفسطاط بالقاهرة

ويتجسد هذا الأسلوب في المتحف الوطني الجديد للحضارة المصرية، الذي لا يبعد كثيرًا عن “الدرب”؛ حيث توجد المومياوات الملكية الأكثر شهرة في مصر القديمة. وتجوب الجرافات والآليات الثقيلة المنطقة المحيطة منذ سنوات، وتهدم المساكن في أحياء الطبقة العاملة، لإفساح المجال على ما يبدو لبناء جديد.

هناك مطعم جديد على ضفاف البحيرة بجوار المتحف يحمل الاسم الفرنسي “Le Lac du Caire” والذي يعني “بحيرة القاهرة”. وبينما يستمتع رواد المطعم بالمساحات الخضراء حول المياه، فقد تم قطع الأشجار في أماكن أخرى واحدة تلو الأخرى.

قد يكون من المبالغة وصف القاهرة بأنها مدينة خصبة. لكن حكام مصر في القرن التاسع عشر زيّنوا عاصمتهم بالحدائق العامة، واستوردوا المساحات الخضراء التي تبدو الآن وكأنها جزء لا يتجزأ من المدينة نفسها، مثل أشجار اللهب التي تتوهج بأزهار حمراء زاهية كل ربيع.

ولكن اختفت العديد من تلك الحدائق والأشجار في السنوات القليلة الماضية، مما أدى إلى تقليص المساحة العامة الضئيلة التي كانت تتمتع بها القاهرة في السابق؛ عادة دون أي مراجعة بيئية وغالبًا ما يكون ذلك بسبب اعتراضات السكان المحليين.

وحلت أكشاك الوجبات السريعة والمقاهي، والطرق الجديدة ومحطات الوقود المملوكة للجيش، على طول ضفاف النيل التي كانت خضراء في السابق والأحياء التي كانت تمتلئ بالأشجار مثل الزمالك وهليوبوليس.

لم يتبق من هذا الضريح سوى القليل من الركام في مقبرة بمدينة الموتى الشهيرة في القاهرة، العام الماضي

وبعد هجوم صحفي كبير – داخليًا وخارجيًا – بشأن عمليات الهدم؛ قال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي مؤخرًا إنه سيتم بناء حدائق ومتنزهات وطرق جديدة؛ حيث تمت تسوية مساحات كبيرة من المقابر القديمة المعروفة باسم مدينة الموتى. وستضم “حديقة الخالدين” الجديدة رفات بعض الشخصيات التاريخية التي دمرت مقابرها الأصلية بسبب احتياجات تنموية عاجلة، على حد تعبير صحيفة الأهرام المملوكة للدولة.

وحتى الآن، ظهرت الطرق فقط، فيما يقول السكان المحليون إن التحديث ليس أمرًا غير مرحب به، لكن الهدم الشامل أمر غير مرغوب فيه أبدًا.

عندما بدأ السيد نصر الدين وعدد قليل من الفنانين الآخرين العمل والعيش في المنطقة القريبة من “الدرب” في التسعينيات، كانت المنطقة عبارة عن خليط مزدحم من المساكن المبنية بشكل غير قانوني، وغالبًا ما تكون غير آمنة، وقد أصبحت أكبر وأكثر تمردًا منذ ذلك الحين.

وعندما بلغ مسامعه أن الحكومة تضع عينها على الحي، رسم في مخيلته مساكن أفضل، قد يكون صممها مهندس معماري مع مراعاة الحفاظ على احتياجات المجتمع، وبالتأكيد مع كهرباء ومياه جارية يمكن الاعتماد عليها، وطرق أكثر سلاسة، وافتتاح المزيد من الشركات لتقديم الطعام لأولئك الذين أتوا إلى “الدرب” من جميع أنحاء القاهرة وخارجها لحضور الحفلات الموسيقية وعروض الأفلام والمعارض.

بالنسبة له؛ فإن هدم ما كان ليس شرطًا لجذب المزيد من الحياة والنشاط الاقتصادي إلى المنطقة، بل إن الاستوديوهات الفنية والثقافية، والعلاقة التكافلية بين ورش الفخار التقليدية والفنانين الذين أتوا إلى الدرب من مصر وأماكن أخرى هي التي ستحيي النشاط الاقتصادي للمنطقة.

معتز نصر الدين، فنان ومؤسس “درب 1718″، وهي مساحة مجتمعية في حي الفسطاط بالقاهرة

وأضاف السيد السيد نصر الدين: “يجب أن يكون هناك 100 درب في جميع أنحاء مصر. بالنسبة لي، هذا ليس قرارًا حكيمًا على الإطلاق”.

أحد المنازل المقرر هدمها يعود لمحمد أمين، 56 سنة، وهو عامل بناء سابق تحول إلى تاجر في جميع المهن في “الدرب”؛ حيث يقول: “نعم، كان الحي غير جذاب، لكنه كان موطنًا، وكان كذلك لأجيال. نعم، تم بناء السكن بشكل غير قانوني”، لكنه أوضح أن الحكومة رفضت إصدار تراخيص البناء، مما أجبر السكان على تولي زمام الأمور بأيديهم.

في مثل هذه الحالات؛ تقدم الحكومة عادةً شققًا جديدة مدعومة. ولكنها تميل إلى أن تكون على مسافة كبيرة من الحي الأصلي، وفي كثير من الحالات، لا يمكن تحمل تكاليفها في نهاية المطاف.

إن إخلاء الجميع من الطريق السريع الجديد يعني أنه في حين أن بعض الناس سيكونون قادرين على الوصول إلى المتحف الجديد بسهولة أكبر، فإن السكان السابقين في المنطقة سيضطرون الآن إلى القيام بتنقلات مرهقة عبر القاهرة للوصول إلى العمل، هذا إنْ بقيت سبل عيشهم.

وأضاف السيد أمين: “الجميع خائفون”.، موضحًا أنه لم يتم إخبار أحد في الحي بالخطة، متسائلًا: “لماذا يحاصروننا هكذا؟”

طريق سريع قيد الإنشاء بالقرب من حي “المَعَادي” بالقاهرة

المصدر: نيويورك تايمز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق