قصة حب في 24 أغسطس!..
بقلم د محمد عباس
السبت، 26 نوفمبر 2016
سوف يعرف القارئ في نهاية هذه القصة لماذا تذكرتها اليوم رغم أنها حدثت منذ أكثر من ربع قرن..
كان بطلها – وما يزال- صديقا حميما ومن كبار الأساتذة في طب قصر العيني..
كان يتعلم في الخارج وارتبط بقصة حب عنيفة عفيفة مع فتاة أوروبية..
وأصرت الفتاة على الزواج منه.. صارحها بأن الحياة في مصر لن تناسبها أبدا وأنه لن يستغل إصابتهما بحمى الحب لتشقى بقية عمرها وليشقى هو الآخر بشقائها.. وأن النبل الحقيقي والحب الحقيقي أن يحميها مما سيشقيها وليس الاستجابة لنزوات عابرة أو مشاعر طارئة سيقتلها ثقل الواقع حتى لو كانت حقيقية.. ظلت الفتاة أعواما تصر.. وظل هو أعواما يرفض.. وذات يوم أخبرني أن الموضوع انتهى .. وسألته:
- - كيف تخلت عن إصرارها؟
- ووجدته يجيبني أنه لن يفعل ذلك بالكلام فقط.. بل سيصحبني –كما فعل معها- في رحلة سياحية إلى قاهرة أخرى غير التي أعرفها..
- وراح يتجول بي بسيارته الصغيرة في أحياء لم أسمع بها قط.. قال لي الصديق أنه اتفق مع زميلته الأوروبية أنه سيصطحبها في رحلة إذا ظلت على إصرارها بعدها على الزواج منه فسوف يتزوجها. راهنته أنها ستظل على إصرارها. لكنها في نهاية الرحلة تحولت من النشيج والنحيب إلى البكاء بصوت عال معترفة:
- - أنت مصر على الانتصار.. الآن أستسلم.. لقد كسبت أنت الرهان..
- اصطحبني الصديق في رحلة الآلام.. رأيت من القاهرة وجها لم أره قط حتى في أعماق الريف حيث الفقر المدقع والتجاهل والإهمال.. طاف بي في أحياء لم أتصور وجود مثلها أبدا.. وعشوائيات مذهلة كما لو كانت بعض أوجه العذاب في الجحيم.. لم أتخيل وجود هذه الدرجة من القذارة والذل والمهانة البشرية في الدنيا أبدا..
- قالت له:
- - لكننا سنسكن في حي راق أو في مساكن المبعوثين.
- اصطحبها في المواصلات اللا إنسانية حيث التحرش.. قالت له:
- - لكن.. سيكون لنا سيارة.
- عرض عليها نماذج من تعامل الشرطة مع المواطنين.. وجعل بعض ضحايا التعذيب يحكون لها عما حدث لهم. قالت له:
- - أنا مسيحية وذلك سيعطي لي ولك حصانة فائقة.. فأنا من ناحية مسيحية ومن الناحية الأخرى أوربية.. ثم –معاكسة- أنني بيضاء أيضا.. وهكذا ستظفر بحصانة ثلاثية!!..
- أخبرها عن مياه الشرب المختلطة بالمجاري.. قالت أنهما سيشربان مياه معدنية أو مقطرة.. جعلها تشاهد مهزلة المدارس والتعليم.. قالت أنهما لن يتعاملا مع المدارس الحكومية.. وأخذ يطوف بها في مراحل كل مرحلة منها أسوأ من المرحلة السابقة لها.. وفي كل مرحلة من هذه المراحل كانت تنظر إليه باسمة دامعة وهي تهمس من بين دموعها:
- - وعلى الرغم من ذلك فما أزال مصرة.
- في نهاية اليوم اصطحبحها –كما اصطحبني- في تلك الرحلة إلى محطة رئيسية للمجاري – أظنها كانت في الوراق-.
- بعد أكثر من ربع قرن ما أزال أتذكر هذا المشهد. لا أظن أنني رأيت مشهدا بهذه البشاعة في حياتي.. شلالات هائلة من مياه المجاري السائلة والصلبة تضخها مضخات ضخمة في ترعة مكشوفة. هل هذا هو الغسلين.. هل هذا ماء من يحموم.. الصوت يصم الآذان بحيث لا يمكنك مهما حاولت سماع صوت من يحدثك صوت الموج وصوت المضخات وصوت الكسارات وصوت الخلاطات الضخمة ويعلو عليهم جميعا صوت الظلم.. صوت البؤس.. صوت العذاب صوت الألم.. أما الرائحة فهي أبشع رائحة يمكن أن تشمها في حياتك.. تكاد الرائحة تتجسد.. يكاد أن يكون لها أذرع ومخالب تمدها من حلقك إلى جوفك لتقتلع أحشاءك من جذورها.. كان الجو رهيبا والصوت رهيبا والرائحة رهيبة والبؤس رهيبا والظلم رهيبا.. وأشد ترويعا من كل ذلك أن ذلك كله كان في حي شديد الفقر والاكتظاظ بالناس.. نعم.. وسط الناس.. وسط آلاف الناس.. بل وسط مئات الآلاف أو يزيدون.. وربما أصحوا الآن ملايين.. أما الأفظع منه فكان أولئك الأطفال العراة الذين يستعملون شلالات المجاري الهائلة كنهر يسبحون فيه.
- نعم..
- يسبحون فيه ويشربون منه..
- كنا قد فقدنا - مؤقتا- حاسة السمع وكان صديقي يحدثني بالإشارة..
- دهمني إحساس طاغ بغثيان لم أشعر بمثله في حياتي أبدا..
- طلبت من صاحبي الانصراف فورا
- انصرفنا..
- كنت قد نسيت قصة حبه..
- وكانت عيناي مغرورقتان بالدموع من بؤس تسبب فيه فساد وظلم بلا حد..
- قال لي صديقي أنه بقي سطر واحد في القصة استسلمت بعده زميلته وغادرت مصر في اليوم التالي..
- أما السطر الأخير فهو أنه قد أخبرها أن هؤلاء الأطفال الذين يسبحون في المجاري يموت بعضهم غرقا. ويموت البعض مرضا.. أما البعض الآخر.. وهو ليس قليلا.. فتجرفه شلالات المجاري إلى الخلاطات الضخمة التي تطحن المواد الصلبة.. ينجرفون إليها فتفرم أجسادهم و تسحقها ولا يعثر على أثر لهم بعد ذلك أبدا..
- كنت أتجلد.. وكانت الدموع تتهاطل من عيني صاحبي..
- ولكن..
- لماذا تذكرت هذه القصة اليوم..
- أقول لكم..
-
- تمنيت- وهذا غريب جدا على قلب لا يعرف الكراهية غالبا ويذوب من الرحمة دائما- .. أقول تمنيت أن أري ساويرس ومحمد أبو حامد وعكاشة هناك.. غارقين في الدنس تجرفهم مياه الشلالات المتدفقة إلى الخلاطات الضخمة....... فلا يعثر على أثر لهم بعد ذلك أبدا..
- ...
- فهل أدركتم الآن لماذا تذكرت اليوم -24 أغسطس- هذه القصة:
- قصة حب!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق