مصر العمياء تتحسس فيل الدستورية
وائل قنديل
يقولون إن الحكم عنوان الحقيقة، لكنه فى مصر «عنوان الحريقة» وربما «مراجيح الحديقة».
انظر على قراءات فرقاء السياسة المصرية لحكم المحكمة الدستورية الصادر بشأن مجلس الشورى أمس ستجد غابة من التحليلات تتطاير فى التفسيرات فى الهواء مثل عصافير مشتعلة بالهوى والغرض والغل والرغبة فى الارتواء بدماء الخصم.
لا أذكر عدد المرات التى حدثتك فيها بهذا المكان عن حكاية العميان التى سردها الفيلسوف الفرنسى فرانسوا مارى أورويه الشهير باسم «فولتير» فى القرن السابع عشر للتدليل على أن كلا يدرك من الشىء ويفهم ما يتناسب مع مدركاته وطموحاته الشخصية، وأجدنى مضطرا لإرهاقك بالقصة مرة أخرى والتى تقوم على أن مجموعة من العميان أدخلوا إلى غرفة بها فيل ضخم دون أن يعرفهم أحد بأن الموجود فيل، وطٌلِبَ من كل منهم أن يحدد ماهية هذا الشىء الموجود، فتحسس أحدهم أرجله فأفتى بأن الموجود مبنى من أربعة أعمدة، ووضع الثانى يده على خرطومه فقال بثقة إنه ثعبان ضخم، فيما ذهب الذى لامس ذيله إلى أنها مكنسة كبيرة.. دون أن يدرك أحد حقيقة الموجود ويصفه بشكل كامل.
شىء من ذلك فعله «عميان السياسة المصرية» مع حكم الدستورية أمس، فمن ذاهب إلى أن الحكم صفعة قوية من القضاء الشامخ للنظام الإخوانى وضربة قاتلة أنهت وجود مجلس الشورى، إلى من رأى فيه إقرارا بشرعية بقاء الشورى كمجلس تشريعى مؤقت والتزاما بمواد الدستور الجديد.
ومن مصفق للمحكمة الدستورية إلى لاعن لها وداع عليها بالهلاك، وإذا كان عميان فولتير لديهم عذرهم كونهم معاقين فى البصر، فما هو عذر عميان السياس المصابين بعمى البصيرة فقط؟
إن الحكم فى منطوقه يبدو أقرب إلى الألغاز وألعاب المتاهة، هذا صحيح بوجه من الوجوه، غير أنه فى الوقت ذاته يكشف عن فيروس خطير أصاب ذهنية تلقى أحكام القضاء، ودال على أن أحدا من الأطراف المتشابكة لم يعد يخامره شك فى أنه لا فواصل بين القضاء والسياسة هذه الأيام العصيبة، والأخطر أن ظاهر الأشياء بات ينبئ بأن عين القضاء مفتوحة ومصوبة على الملعب السياسى، بعيدا عن المقولة القديمة التى كانت تؤكد أن القضاء مثل الحب أعمى، بمعنى أنه لا يعرف المواءمات ولا التوازنات السياسية.
ولو ذهبت بعيدا عن حكم الدستورية ستجد حالة العمى مهيمنة على الجماعة السياسية بشكل كبير، فكل فريق يرى من مصر ما يريد أن يراه فقط، والباقى لا وجود له، ويمكنك أن تقول الشىء ذاته عن إدراك الفرق المتناحرة لمفاهيم كنا نعتبرها مستقرة مثل «الثورة» و«الديمقراطية» فصار كل هذه التعريفات التى كانت جامعة مانعة حمالة أوجه، بحيث صارت هناك عشرات النسخ المختلفة من «مصر» وعشرات التعريفات لكلمات مثل «الثورة» و«الشهيد» و«الوطنية».
والأمر ذاته ينسحب على المواقف المتباينة مما يجرى فى تركيا، فالذين رفعوا صور أردوغان بشوارع القاهرة فى ٢٠٠٨ كرمز للفروسية والنضال صاروا يرون فيه الشيطان الأكبر الآن.. والذين لم تهتز جلودهم التخينة من مجازر بشار الأسد ضد شعبه ولم يجرؤ أحدهم على مطالبته بالرحيل، يطلبون من أردوغان التنحى الآن.
ما أصغركم أيها العميان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق