الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

للصحافة بلطجيتها!


للصحافة بلطجيتها!

د. أحمد بن راشد بن سعيّد


ظاهرة البلطجة ليست حكراً على أصحاب الجمال والبغال والحمير الذين غزوا ميدان التحرير في أوج ثورة ٢٥ يناير بمصر، ليفتكوا بشباب رائع، ذي حس وطني عال، وهمة تحررية وقادة. البلطجة ظاهرة أشمل؛ هناك رجال أعمال بلطجيون، وهناك عملاء أمنيون بلطجيون، وهناك رؤساء تحرير وكتاب أعمدة بلغوا في البلطجة شأناً كبيراً.
شكراً للهجة المحلية المصرية التي أهدت قاموس العربية مفردة «البلطجية».
كانت أول مرة سمعت فيها هذه الكلمة اللافتة قبل ثلاثين عاماً (كنت طفلاً آنذاك!)، وكان القائل هو محمد أنور السادات، في خطاب له أمام مجلس الشعب، مثير ومليء بالاستعارات البلاغية والاستمالات العاطفية.
 يومها انتقد صاحب «المبادرة» المشهورة شباب الجماعات الإسلامية في الجامعات المصرية الذين وقفوا ضد سياسات نظامه في الداخل والخارج، متهماً بعض أفرادها باستخدام العنف وحمل «المطاوي» و «السكاكين»، موجهاً في نهاية خطابه هذه النصيحة لهم: «ولادي في الجماعات الإسلامية..إحنا عايزين نخرج أطباء، مهندسين، محامين، مش عايزين نخرج بلطجية».
منذ ذلك الوقت، شعرت كم هي «بليغة» هذه الكلمة، وكم هي معبرة عن سلوك الفوضى واللامسؤولية، وتجاوز القانون، والعمل ضد الصالح العام.
في آوج ثورة ٢٥ يناير، عادت الكلمة بقوة، ليس إلى الساحة المحلية المصرية فحسب، بل إلى الساحة العربية، وأصبحت جزءاً من الخطاب العربي في مرحلة جديدة تتسم بالصراع بين تطلعات جماهيرية مشروعة، وجماعات صغيرة، ولكنها منتفعة من النظام القديم الذي كساه الترهل، ونخره الفساد.
في اليمن سمعنا مفردة «البلطجية»، وفي ليبيا سمعناها، وفي الصحافة أيضاً مجموعات كانت ومازالت تتحرك بروح البلطجة، ومن يتأمل خطاباتها إبان ثورة ٢٥ يناير، وبعد انتخاب الرئيس مرسي، وبعد الانقلاب عليه، لن يجد فرقاً يُذكر، إذ القاسم المشترك بينها هو العداء لتطلعات الشعوب، والانحياز إلى جلاديهم.
سأتناول هنا بعض الأمثلة من الصحافة السعودية قُبيل انتصار ثورة يناير.
محمد المحمود، أحد أولئك الذين يستعذبون العبودية ويتماهون مع الطغيان، كتب في جريدة «الرياض» مقالاً بعنوان: «من تونس إلى مصر: وهم الثورة وحيرة الثائرين»، قلل فيه من شأن الثورتين التونسية والمصرية زاعماً أنهما ليستا ثورتين أصلاً: «لابد من التأكيد على أن وجود ثوار، لا يعني وجود ثورة. الثورة الحقيقية لها شروطها التي يصعب توفرها لمجرد توفر مجموعة من الثوار الغاضبين لهذا السبب أو ذاك... للأسف، في العالم العربي كل شيء هزيل... كل شيء يحمل طابع التزييف والتزوير، كل شيء يُراد له أن يظهر بأكبر من حجمه...» (3 شباط/ فبراير 2011).
كاتب آخر، من الميليشيا ذاتها، هو علي الموسى في جريدة «الوطن، الذي أثنى ضمناً على تناول قناة «العربية» لأحداث الثورة في بداياتها مشيراً إلى تركيز القناة على تعرض المتحف المصري للاعتداء والنهب، وفقدان عدد من الآثار النادرة.. و «موال» لا ينتهي سهرت القناة على عزفه، محاولة من خلاله تشويه الصورة البهية للشعب المصري، وتصوير متظاهريه المطالبين بحقوقهم بوصفهم عصابات من مثيري الفوضى، في وجه حكومة تحاول التماسك والحفاظ على مكاسب المجتمع.
 قال الكاتب في ما بدا أنه إعادة إنتاج لخطاب «العربية»، إن «الشعب الذي يتظاهر بمئات الآلاف من أجل الحرية...، من أجل الإصلاح، من أجل النزاهة والمحاسبة، من أجل حقوق الفرد، من أجل الأمن والعدالة: لا يمكن له أن يسرق...ولا يمكن له أن يسمح لنفسه أن يرتكب بكل فظاعة عكس القيم التي يرفعها في التظاهر. تشعر بالحزن والأسف وأنت تراقب التظاهرة المصرية الشاملة ترفع كل الشعارات الجميلة في ضوء النهار، ثم تتحول في ظلام الليل لتفعل ما تتهم الحكومة به: نهب يحمل على الأكتاف ما استطاعت اليد أن تصل إليه وما تتحمل العضلات أن تحمله: الكراسي، أسطوانة الغاز، أباجورة النور، المكيف، جهاز الحاسب وطاولة القهوة الصغيرة أمام المكتب... تشعر بالتناقض من الأفواه التي تتهم الحكومة بالسرقة في وضح النهار، ثم تعود لممارسة ذات الفعل بعد الغسق...». وبعد «مرافعة» طويلة ومملة أراد بها الكاتب الانحياز إلى الدعاية المضادة للثورة في قناة «العربية»، وقنوات تلفزيون مبارك المتداعي وقتها، ختم مقاله بالنتيجة الغريبة التالية: «نحن لدينا خلل تربوي. شعور بالرغبة في التدمير. ميل جارف إلى السرقة. كذب في الشعارات: لا فرق فيه ما بين الأنظمة وبين الشعوب». عبارات «بلطجية» بامتياز، لكنها تبدو لأول وهلة صحيحة من حيث انطباقها على الكاتب نفسه لا على غيره (30 كانون الثاني/ يناير 2011).
في مقال آخر يسخر الكاتب نفسه من جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر مقترحاً أن تتولى الجماعة مقاليد الأمور في البلاد، وتركها تحصد مرارة الفشل بحسب رأيه.
 يقول في المقال الذي حمل العنوان: «ادفعوا الإخوان المسلمين لحكم مصر» (وهو عنوان ينبي عن تفكير مرضي وحافل بالعُقد) إن «الكعكة الكبرى» جاهزة أمام الإخوان، «ومقعد السلطة الذي ناضلت من أجله منذ 1926»...»ومن أراد لحركة الإخوان أن تسجل فشلها الذريع فليدفعها إلى مواصلة الحلم.
الحركة ستكتشف أن الجوعى والمحبطين والعاطلين اليوم لن يعيشوا بالشعارات..» (3 شباط/ فبراير 2011).
 وفي مقال آخر يحاول الكاتب التزلف إلى الثورة من منطلق رؤيته الفجة والمتحاملة والغبية قائلاً إن الشباب في ميدان التحرير لا يميلون إلى «أدلجة القومية والوحدة ومفردات العروبية، ولم يُسمع منهم أن الإسلام هو الحل، وكأنهم أدركوا أن هذه الشعارات المستهلكة كانت جزءاً من مسيرة الكوارث الطويلة».
 لكن الكاتب يبوح في نهاية المطاف بما يبدو أنه اعتراف إيجابي مؤكداً فشل نبوءاته وتحليلاته التي وصفها بـ «الكاذبة» مضيفاً: «وهنا سأعترف وأعتذر شخصياً عن كل نبوءة أو تحليل. نحن جميعاً ضحايا جيل محنط متخلف من الجيل القديم» (13 شباط/ فبراير 2011). مرة أخرى، أود التشديد على أن الوصف هنا ينطبق على الكاتب، لا على غيره بالضرورة.
كاتب آخر، هو طارق الحميد، الذي كان رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وصف في مقال له عنوانه: «مصر.. خوفنا كبير» ثورة ٢٥ يناير بأنها «عنف»، لا تظاهرات سلمية، مشيراً إلى أن «المطالب المشروعة لا تأتي بالعنف، وإحراق أوطاننا، ولا بهدم الاقتصاد» (29 كانون الثاني/ يناير 2011).
وفي مقال آخر له بعنوان: «درس مصر: الدولة هيبة»، يدافع الكاتب عن نظام مبارك قائلاً: «إذا ما ضاعت هيبة الدولة، فإن المصير هو ما نراه من نهب وفوضى في كل مصر»، وهو ما يحتم على المصريين «الحفاظ على هيبة الدولة» (يعني الإبقاء على مبارك)، لأن المطالب الشعبية، كما يزعم الكاتب «بدأت مشروعة»، ثم «تحولت إلى فوضى، وتهديد لكل ما تحقق في مصر»، و»فاق حجم الخسائر كل المكاسب التي كانوا يرجونها» (30 كانون الثاني/ يناير 2011).
وتساءل الكاتب في مقال آخر: «هل يُختطف جهد الشباب، وتنتهي مصر محكومة من قبل الإخوان المسلمين؟..».. يا نهار أحمر! «تنتهي» مصر؟!، ثم يضيف: «أم تسير إلى دولة ديموقراطية حقيقية، وتنهض اقتصادياً وسياسياً...وتتبدد مخاوف سقوط مصر بيد الإسلاميين؟».. سقوط..؟ من هو «الساقط» هنا؟.. ويوضح الكاتب مراده، وهو لم يكن بحاجة إلى مزيد من الإيضاح: «كلها أسئلة مستحقة، وتقض مضاجع المنطقة...وكذلك المجتمع الدولي، وعلى رأسه أميركا...هذه أول مظاهرة عربية لا تُحرق فيها أعلام إسرائيل وأميركا» (5 شباط/ فبراير 2011).
وفي الصحيفة ذاتها يدافع عبد الرحمن الراشد في عمودين منفصلين عن مبارك زاعماً أنه «رجل صاحب بأس شديد» و«رجل صعب لا ينحني بسهولة»، وأنه «أكثر الرؤساء الثلاثة الذين حكموا الجمهورية انفتاحاً على أحزاب المعارضة، وفي عهده ارتفع سقف الحريات» وأنه «زعيم وديع نادر الانتقام»، مبدياً ارتياحه من التظاهرات «الوحيدة»، بحسب رأيه، التي لم يحدث فيها «حرق أعلام أميركية أو إسرائيلية أو صيحات تكبير دينية» (7 و10 شباط/ فبراير 2011).
وفي جريدة «عكاظ»، ذهب أحد كتّابها، وهو حامد عباس، إلى حد اتهام الشعب المصري بأسره بالعبث والديموغاجية و»الدكتاتورية»، زاعماً في مقال له بعنوان: «دكتاتورية 25 يناير»، أن المصريين يحملون في قلوبهم «أحقاداً دفينة كالتي نراها ماثلة بوضوح في هذه الحشود الضخمة...تجاه رئيسهم الذي قضى أكثر من ستين عاماً في خدمة وطنه».
ولا يكتفي عباس بذلك، بل يصل إلى اتهام المصريين والعرب جميعاً بأنهم لا يستحقون الحرية والديموقراطية متسائلاً: «هل العرب مؤهلون الآن لتطبيق نظام ديمقراطي يتم فيه تبادل السلطة دون حساسيات؟ أشك في هذا...لسنا مؤهلين لذلك الآن؛ لأننا نحتاج إلى سنوات طويلة حتى نصل إلى الديمقراطية التي نتمناها، ويتم فيها تبادل السلطة بشكل طبيعي، كما حدث ويحدث في الدول النماذج، لأنها أمضت قروناً تتقاتل وتجرب...فالديمقراطية في نظري ثقافة تحتاج إلى أجيال لترسخ أقدامها، وامتحانها الفرد منا: كيف يتعامل مع الرأي الآخر، وكيف يتعامل مع زوجته وأبنائه..» (11 شباط/ فبراير 2011).
هل رأيتم «بلطجة» أسوأ من هذه؟ كيف يمكن توجيه اللوم إلى برنادر لويس، أوغيره من المستشرقين الجدد الذين ينظرون بعنصرية إلى العرب والمسلمين زاعمين أن الديموقراطية والتعددية السياسية لا يمكن أن تزدهرا في بيئة غير أوروبية أو غربية، وأن «عقيدة مواجهة الاستبداد عقيدة غريبة على الفكر الإسلامي»، بحسب تعبير لويس في مقالته الشهيرة: «الشيوعية والإسلام».
هذه مجرد نماذج من «بلطجة» الأعمدة خلال ثورة ٢٥ يناير. ومن المثير واللافت أن مفرداتها لم تتغير كثيراً بعد انتصار الثورة، وخلال عهد الرئيس مرسي.
لكن بعد الإطاحة بالرئيس، انهمكت ماكينة الدعاية في تلميع الانقلاب، الذي وصفته قناة «العربية» بالثورة الثانية، ويا للسخرية، إذ هي أصلاً لم تعترف بالثورة الأولى 
(إن سلّمنا بتصنيفها المتصهين).
ظاهرة «البلطجية» الصحافية تنشأ في بيئة فاسدة، وتتنفس من الارتزاق والنفاق والتجرد من المسؤولية والارتهان للأجندات الأجنبية، وكتّابها لا يفاجئون آحداً، لأنهم معروفون بسرعة التلون و «الانقلاب»!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق