أحمد الخليلي.. رسالة العقل العُماني
مهنا الحبيل
تويتر: MohannaAlhubail
المشهد الأول الذي لفت فيه نظري لشخصية سماحة الشيخ أحمد الخليلي مفتي سلطنة عمان كان حدثاً درامياً خطيراً له انعكاسات سلبية على علاقات الوحدة الاجتماعية بين شعوب الخليج العربي والمذاهب الإسلامية وخاصة المقربة واللصيقة جداً من مدرسة أهل السُنة كالزيدية والإباضية، وهي وحدة تُمثل مدلولات الأمة ومنهجية التواصل والتوحد والبناء وتنظيم الخلاف في أصوله وأروقته العلمية وليس في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية بين المسلمين.
فما بالك إذا كانت المدارس الثلاث تتحد في الصلوات والشعائر والمساجد، عَلق اسم الشيخ المبارك بذهني منذ تلك الحادثة فكنت أتابع حراكه ومشاركاته في الإعلام، ويوماً بعد يوم تزايد عندي قصة هذا الشيخ الوحدوي الراشد العميق في فهم الفكر ودلالة العقل لرسالة الإسلام الكبرى، وحين قصده بعض طلبة العلم من مذاهب مدرسة أهل السنة في الخليج العربي.
وحدثوني عن الشيخ الجليل وكيف أخذتهم الدهشة والإجلال وهم يتقافزون لتناول مائدة الشيخ الكريم وهو يُصّر أن يديرها بنفسه وقد بلغ منهم الحياء مبلغه وهو يردد إن من الأدب خدمة الضيف لا الاستعانة به، وإن كان ذلك في تقديري له استثناءات أولها مقام الشيخ وعمره، لكن هكذا درج تواضع الإمام وهكذا هو نهج وأخلاق أهل عُمان.
فذهب بي التاريخ إلى سجله من جديد بدءاً من الحادثة، وهي باختصار أن العالم الورع الجليل الشيخ عبدالعزيز بن باز يغشاه بعض طلبة العلم ممن لم يرشد فقهه ولا بصيرته فيُلقي عليه سؤال ويدوّن ثم ينشر لأجل إشعال مشاعر محتقنة، كما حدثني بذلك تلميذه والباحث السابق في مكتب سماحة العلامة بن باز الشيخ محمد بن عبدالرحمن السماعيل الحنبلي الأحسائي عن هذه الحوادث في مناسبات مختلفة.
وبحسب هذا البرنامج أخذت فتوى من سماحته عن إمامة السادة الإباضية في الصلاة، وقررها الشيخ دون مراجعة مفاهيم شرعية ومتطلباتها بين المسلمين، وسعى بها ذلك النفر القليل العقل والإدراك، ولو روجع الإمام ابن باز لكان له قولٌ آخر لا أشك في ذلك كما جرى في فتوى كادت تصدر من مكتبه لقضية أخرى، وهي حادثة مشهورة مؤلمة احتوتها المملكة والسلطنة في حينها، وكان الشيخ الخليلي ركيزة الاحتواء الإسلامي العميق والاجتماعي المهم جدا بيننا كأشقاء لم نطرح في أي يوم، هل أخي العماني شافعي أم إباضي؟
فعرض سماحته حينها النقاش وأرسل ردّه وعتبه المستحق، ولكنه وقف في هذا المنعطف التاريخي ليتجاوز الشعب العربي في الخليج هذه القضية التي قد تُطرح في مداولات تفصيلات طلبة العلم، بل بعضهم قد يشير إلى عدم جواز الصلاة خلف إمام بين المذاهب الأربعة لو صلّى هذا على شرط طهارة عنه لا تصح عند ذاك وهكذا، لكن لا يسعون بها بين المسلمين وظهرانيهم وخاصة من اطمأنت قواعد الوحدة بينهم وتقاربت مسارات الاعتقاد والفقه، فضلا عن فقه التعايش والجوار والعيش المشترك، الذي نتجاوز نحن مع أشقائنا في عُمان وخارجها مساره إلى الوحدة والأخوة.
حينها كانت العلاقات الدينية والسياسية بين الرياض وطهران في أسوأ حالتها، مترافقة مع حوادث الحج، فانطلقت وفود إيران ومشاريعها إلى سماحة الإمام الخليلي تطلب تحويل القضية إلى موسم مشاحنة وتصفية حسابات، فكان لها الإمام بالمرصاد ودفنها تحت أقدام العمانيين العرب القحطانيين وكل حواضرهم القائمين بالعروة الوثقى التي تكسّرت عليها أساطيل الغزاة البرتغاليين.
ولم يكتف الشيخ الخليلي بهذا الموقف، بل انطلق في عالم الوحدة الإسلامية يعيش قضاياها ومؤتمراتها، وشارك بفعالية وتواصل اجتماعي وروح علمية وأخلاقية ممدودة وكانت رمزية مشاركته في اتحاد علماء المسلمين مع سماحة الإمام القرضاوي وبعض علماء الأمة لها دلالة نفسية عميقة في نفوسنا كأبناء لهذه الخليج العربي في ظل انقسامات وعواصف ورياح فتن بين المسلمين تُستثمر من ورثة البرتغاليين في كل وقت. وإن كان للكاتب وجهة نظر في مسار وخطاب اتحاد علماء المسلمين سيعرض لها مستقبلا بعون الله، لكن هذه الرمزية الوحدوية وشراكة الشيخ الخليلي كانت إحدى البصمات الجميلة الراشدة التي نرجو تعزيزها، واستمرت بيانات الشيخ الخليلي وروح تضامنه ورؤاه التجديدية، عبر النقاشات العلمية والفكرية ومحن الأمة تتدفق في مساراتها كنائب لرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أو خارجه.
وكانت رسائل الإمام وتعليقاته تتابع مع آمال الأمة وحاجات الإصلاح الضرورية العاجلة حيث يبعث بها الشارع العربي، ولم أسمع له أو أقرأ عنه عبارات تدعم نقض هذه الآمال وتستثمر موقعها الديني لهذا الطرف أو ذاك، وعُمان اليوم منذ أن أطلق نهضتها الحديثة جلالة السلطان قابوس تحمل آفاق تجديد ومسارات إصلاح يحملها شباب ومثقفون ليستمع لهم المسؤول ويشاركهم النبض المتزن الواعي شيخ الفقه والحكمة، وهو ما ندعو الله أن تسير به عمان للإصلاح نحو مجد ربّان الخليج الذي سرق الأوروبيون فكره وخريطة بحره ونسبوه لهم، وهم يتوشحون هذه الأخلاقيات الراقية التي سحرتنا في سياحة ماضية بين مسقط وصلالة وكنت أقول لهم يا عُمان المجد من أي الحلوى أغرف من حلوى السيب أم من حلوى أخلاقكم ونهرها العذيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق