الضجيج الليبرالي
آيات عـرابي
لم يكن الربيع العربي وبالا على أنظمة سايكس بيكو فحسب، بل كان كارثة على ديكوراتها الليبرالية.
كانت تلك الأكشاك الحزبية هي الأعلى صوتا قبل الثورات لأسباب عدة، أهمها نقاط التقاطع الكثيرة بين تلك الأكشاك وتلك الأنظمة العسكرية، فكلاهما يؤمن بقدسية دولة سايكس بيكو وحدودها، وكلاهما معاد للحركة الإسلامية وفي القلب منها الإخوان المسلمون، وكلاهما يتبنى خطابا دينيا فولكلوريا سطحيا، يخفي خلفه علمانيته المتطرفة.
كلاهما يتبنى الثوابت الأمريكية وفي القلب منها حماية الكيان الصهيوني، ولعل ما قاله مصطفى الفقي عضو لجنة السياسات بالحزب الوطني المنحل، في لحظة صراحة مفاجئة، كان كاشفا لحقيقة نظام العسكر في مصر، حين قال إنه لا يوجد رئيس إلا برضا أمريكي وموافقة "إسرائيلية" !
النقطة الأخطر في هذا الزواج العرفي بين العسكر والليبراليين، هي اتفاق كل منهما على ثوابت دولة سايكس بيكو التي أنشأتها المخابرات البريطانية، ثم تعهدتها المخابرات الأمريكية بعد استلامها لمصر في أعقاب انقلاب 52.
فكلاهما يحرص على الحفاظ على تلك المؤسسات؛ العسكر يحرصون عليها لأنها قناتهم إلى حكم مصر والمزيد من استعباد الشعب، والقشور الليبرالية؛ لأن رضا تلك المؤسسات جسر لابد من عبوره قبل الحصول على ختم الموافقة من السيد الأمريكي لحكم مصر.
وكلاهما رغم كل ذلك على عداء بعضهما مع بعض، وهو عداء تحت سقف سايكس بيكو؛ فكل منهما يخطب ود السيد الأمريكي محاولا إقناعه بأنه الأجمل والأرق والألطف والأكثر ولاء للكيان الصهيوني.
مسابقة ملكات جمال سايكس بيكو يخوضها كل منهما، يتعرى فيها ويضع المساحيق ويرتدي مايوها ساخنا، على أمل أن يسيل لعاب السيد الأمريكي ويتدلى لسانه، ليضع تاج مصر على رأسه في نهاية المسابقة.
الفارق الوحيد بين عصابات العسكر وشراذم الليبراليين، هو أن العسكر يمتلكون الجيش المصرائيلي وعصابات الداخلية، وهو ما يفسر لك السباق المحموم بين الطرفين على استرضاء تلك المؤسسات؛فعصابات العسكر ترفع رواتبهم بينما يركض إخوانهم الليبراليون بلهفة لتجميل صورتها والتزلف إليها، عن طريق تبني خطابها ونبذ أي خطاب تفوح منه رائحة الثورة، أو كشف حقيقة تلك المؤسسات التي أنشأها الاحتلال، وهم في ذلك ستر وغطاء على العسكر وجرائمهم.
ولكن التفوق العسكري في مجال صناعة الرأي العام وتغييب الوعي أكبر من مثيله الليبرالي، فالعسكر يحتكرون القنوات وهم بحكم السيطرة العسكرية الفعلية أقدر على نشر سمومهم من الليبراليين، وهم لذلك يصنعون ضجيجا أكبر من الضجيج الليبرالي.
والنزاع بين الطرفين يتركز دائما في ساحة الفشل في إدارة "الدولة"، أو إصلاح المؤسسات أو الفساد، وهو الخطاب الذي تتبناه الشراذم الليبرالية في محاولة لحشر نفسها على مساحة ما من الأرضية الثورية.
وكلاهما قشرة دون ظهير شعبي حقيقي يمكنه من الوصول لكرسي الحكم إن اُجْرِيَتْ انتخابات حقيقية، كلاهما فأر يمسك ميكروفونا كبيرا يضخم صوته، بينما على الأرض لا يمتلك أي منهما أي ظهير.
ومنذ الانقلاب، انقسم الليبراليون المصريون إلى فريقين، فريق "اصطف" دون مواربة مع الانقلاب العسكري، وفريق آخر لا يتفق مع عصابة الانقلاب إلا في الحفاظ على مؤسسات العسكر، وفي رغبته بإزاحة الإخوان المسلمين من المشهد، ولا ضير بعد ذلك في أن يتنافسا أمام السيد الأمريكي، وهو ما يفسر لك اتفاق خطاب كل منهما حول الرئيس مرسي؛ فكل منهما اتفق على إبعاد الرئيس من المشهد، وكل شيخ وله طريقة، فهذا يعمد إلى تشويهه والآخر يعمد إلى إزاحته إلى ركن مهمل، مع تبني خطاب "معارض" يبدو ثوريا، يركز فقط على الإطاحة بشاويش الانقلاب، ولا يلتفت للتسوس في مؤسسات العسكر من جيش وشرطة ومخابرات وغيرها.
أحسب أننا في عصر سقوط مستعمرات سايكس بيكو بكل مؤسساتها وديكورها الليبرالي، وأحسب أن ذلك الضجيج الليبرالي سيخفت في ظل الزئير الثوري الذي يرفع أهدافا على رأسها عودة الرئيس مرسي إلى منصبه ليكمل مدته، وفي ظل افتضاح مؤسسات العسكر (الجيش المصرائيلي - داخلية الانقلاب – المخابرات)، التي تعمل في مجموعها كقوات أمن مركزي تابعة للجيش الصهيوني.
ayat_oraby@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق