حدّث سهم بن كنانة، قال:
كان في القرن الخامس عشر بجزيرة العرب، رجل يزعم أنّه واحد دهره في الأدب، وأنّه أدرك من أسرار البيان، ما لم يدركه إنسٌ ولا جان، وقد اشتُهر بابن الغلامي، أو نحو هذا من الأسامي، وكان يصف نفسه بالعصامي، والناقد والإعلامي، الذي يرى ما في الخطاب من فطور، ويجيد قراءة ما بين السطور، ويمتلك أدوات النّقد، من غير تحيّز ولا حقد، ويقضي أيامه مع الورق، تفكيكاً لما يصفه بالنّسق، زاعماً أنه لا يكفّ عن سبر النص، إلا إذا بان الحقّ وحصحص.
قال سهم بن كنانة: وكان ابن الغلامي يؤمن بعقيدة غربيّة، تُسمّى الليبرالية العلمانية، تقوم على عزل الإسلام عن السياسة، وإقصائه عن شؤون الرياسة، وقصرِه على شعائر العبادة، بعيداً عن الحكم والسيادة، وكأنّ الدين الذي كتب الله له الريادة، ونشر به العدل وزيادة، لم يجعل الذروة جهاده، وإصلاح المجتمع عماده، بل كأنّه، معاذ الله، لم يُشرَعْ للقيادة، ولم تحمله أمّة كلَّفها الله بالشهادة، ولذا كان ابن الغلامي يتوجّس ممّن يعتقد شمولية الدين، ويعدّهم عن الصراط ناكبين، وقد عاش حياته حاملاً عليهم بقوّة، تحت ستار نقد «الصحويّين» و «الصحوة»، فلم يترك محفلاً إلا نال منهم فيه، متظاهراً بالنصح وهو يريد التشويه، وربما اختلق ذريعة للنيل ممن يبغض، أو ممن يخاف أن يبزّه فيمرض، وما أسهل أن ينقّب في تدويناتهم، ليلوي أعناق عباراتهم، ثم يرمي عالماً بقبح الأغراض، وآخر بالمسّ بالأعراض، فإذا لامه الناس على سوء كلامه، أو انتقدوه لجور أحكامه، صاح: إنّما أنا ناصح أمين، وعسى الله أن يهديهم أجمعين، فأظهر أنّه رمز اعتدال، ورمى ضحاياه بالضلال، ثمّ دعا لهم بحسن المآل.
قال سهم بن كنانة: واجتمعت في ابن الغلامي الكراهية والحسد، وهما خصلتان تأكلان الرّوح والجسد، وقد كان جدّي يعجب من صبره على نفسه، ويدعو الله أن يطهّره من رجسه، كما كان يعجب من غيرته ممّن هم أصغر من سنّه، بل ربما كان بعضهم في عمر ابنه، ولهذا حتماً سبب نفسي، فلا دواء يطفىء الغيرة أو يُنسي، إذ كان يريد أن يستأثر بالبريق، ويستمتع وحده بالتصفيق، وأن تتصدّر أخباره الجرائد، وتشيع أقواله كالفرائد، وأن يظل في دائرة الضوء، وعلى من يعاديه دائرة السوء.
قال سهم بن كنانة: وطالما ردّد ابن الغلامي أنّ النقد مبضع، ولا يكون نافعاً إلا إذا أوجع، فأبقى مبضعه مُشهراً في الوجوه، حتى كرهه الناس ومجّوه، ومن عجب أنّه كان يحمل المباضع، ويتظاهر في الوقت نفسه بالتواضع، داعياً إلى مناداته من غير لقب، مردّداً: الشأن في الأفعال لا في الرُّتَب، وقد نجح في خداع بعض من عاصروه، حتى قال قائلهم: لله أبوه، ومن العجائب أنّه كان يتباهى بالثناء على تواضعه، ويعيد نشره بنقرة من أصابعه، ثم يُسدي للمادحين الشكر، وهو يتمايل كأنّ به سُكْر!
قال سهم بن كنانة: وذات ليلة خرج ابن الغلامي على الناس، وهو يكاد يطير من الاستئناس، فقال: ليس العلم باختباراتٍ تُدقّق، ولا شهاداتٍ تُعلّق، وإنما العلم بالإنجاز، ثم التحليق كالباز، فذلكم الإعجاز، فذلكم الإعجاز. ثم أضاف بروح مندفعة، ومثاليّة مصطنعة، أنّه تلقّى قبل بضعة عقود، أعلى الشهادات بالبريد، فما فرح لورودها، ولا اهتمّ بوجودها، بل ضرب عنها صفحا، وطوى عنها كشحا، فحلّت عليها المسكنة، ومكثت في (كرتونها) أربعين سنة!
قال سهم بن كنانة: وظنّ أقوام أنّ رواية ابن الغلامي عن شهادته العليا، لا تخرج عن سياق تواضعه في هذه الدنيا، وأنّه يضرب مثلاً لقيمة الإنجاز، التي تستحقّ وحدها الإبراز، ونسي هؤلاء أنّه إنّما مدح بهذا نفسه مرة أخرى، فأظهرها زاهدة في الأولى راغبة في الأخرى، وأوحى أنّه أنتج ما أنتج بتعبه، لا بشهادته ولا بلقبه، فهو فوق الشهادات والألقاب، لا ترقى إليه كتبٌ ولا كتّاب، ولا أدلّ على ذلك من نشره إعجاب الناس بقصة الكرتون، وما هو إلا جنون العظمة لو كانوا يعلمون.
قال سهم بن كنانة: ولم يستطع ابن الغلامي خداع الناس كل الوقت، فحصد في النهاية الازدراء والمقت.;
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق