هل نستطيع طرح الموضوع بشىء من الهدوء، والنظرة البعيدة المدى، دون ذلك التشنج الذى تعودناه فى مناقشاتنا منذ عدة أعوام؟
نحن علماء، والعلم يعنى الوصفية فى المواجهة، والمتابعة المنطقية فى التحليل، والصلابة فى النتائج، والحياد فى التقييم، ليس هدفنا فى هذه الصفحات أن نثير الماضى، وأن نتحدث عن المسؤول فلنترك ذلك جانباً ولكن نريد أن نقتنع بمصالح أمتنا الحقيقية، وكيف يجب أن نبنى إطارنا فى التعامل مع الواقع، الذى تعيشه مصر من جانب، والمنطقة العربية من جانب آخر، وموضع مصر من تلك المنطقة من جانب ثالث.فلنجعل هذا وحده منطلقنا فى تناول الموضوع.
هناك، وقبل أن ندلى بدلونا فى العناصر المختلفة التى سوف تدفعنا إلى جوهر المعالجة التفصيلية نقاط ثلاث، يجب أن تكون واضحة ومقننة منذ البداية، حيث لا موضع حولها لمناقشات:
أولاً: دقة وخطورة عملية التعامل مع المعلومات.
ثانياً: خصوصية العلماء العرب الذين يأتون من الولايات المتحدة الأمريكية.
ثالثاً: طبيعة التطور العام فى المنطقة، وأهميته للاستراتيجية الأمريكية الجديدة وموضوع عملية جمع المعلومات من هذه الاستراتيجية.أول هذه المنطلقات والتى يجب أن تكون واضحة فى الذهن، هى ما يتعلق بعملية جمع المعلومات، من متابعة التعليقات المختلفة التى تثار بهذا الخصوص، نلحظ نوعاً من السذاجة المنقطعة النظير،
ونحن نتساءل :هل هى سذاجة مصطنعة أم سذاجة حقيقية ؟ هل يتصور أولئك الذين يقولون بأن هذه المعلومات متوفرة فى الخارج، ونحن مهما أحطناها بسرية فلا يمكن أن تظل خافية على الآخرين إنه لا يوجد فى عالمنا العربى من يعرف حقيقة التعامل مع المعلومات؟ إنهم هم الذين لا يعرفون كيف تتم عملية جمع المعلومات؟ كيف تتم عملية استخدام المعلومات فى بناء التصور، وخلق مسالك التنبؤ؟ أم أن الحقيقة تجمع بين هذا وذاك؟
أ- فالملاحظة أولاً أن من يعهد إليهم بهذه البحوث فى كثير من الأحيان لا يملكون أى معرفة حقيقية بالبحوث الميدانية، لم تقدر لهم الدراسة العلمية السابقة، ولم تقدر لهم التجربة الواقعية الحقيقية، وهم إلى جانب ذلك يمتازون بالسطحية من جانب، والغرور من جانب آخر، وهذا سلاح ذو حدين: فهو من جانب يجعل المرء يطمئن إلى عدم قدرة هؤلاء على البحث الحقيقى، واكتشاف الحقائق المستترة خلف هذه المعلومات، ولكن من جانب آخر يصيرون أداة واعية فى يد المخطط الأجنبى الذى يجلس إلى جوار هؤلاء، ويستخدمهم كما تستخدم الدمى على مسرح العرائس، وحتى لا يظن البعض أننى أبالغ فإننى أسوق واقعة واحدة، أن أحد أهم من قام بتوجيه بعض هذه الأبحاث وبحضور قنصل مصر العام فى روما فى الشتاء الماضى، قال لى بالكلمة الواحد: إن بعض ما قام به هؤلاء الباحثون المصريون، لا يصلح حتى للنشر فهو مادة تافهة لا ترقى إلا مستوى المادة العلمية.
ب- كذلك فإن استخدام المعلومات اليوم أضحى عملية مرعبة، من حيث القدرة والفاعلية، لقد ذكر البعض أنه فى عهد الرئيس عبد الناصر استطاعت المخابرات الإسرائيلية. من متابعة عدد علب السردين المنقولة إلى منطقة الإسماعيلية. تقدير تطور عدد القوات المصرية المقاتلة فى تلك المنطقة، وهذه ليست نكتة ولكنها حقيقة، إن النظريات السلوكية بتحالفها مع نظريات المعلومات وصلت إلى مستوى وقدرة على التنبؤ لا يستطيع أن يتصورها إلا أولئك الذين تعاملوا حقيقة مع هذه الأجهزة، وعلماؤنا الذين يُختارون لهذه المشاكل، أى لجمع المعلومات فى غالبيتهم العظمى ينتمون إلى ثقافة اجتماعية ضحلة لم تسمح لهم بالتعامل الرياضى والالكترونى مع أجهزة تحليل المعلومات.جـ- وتأتى لتزيد من مخاطر هذه الحقيقة أن الاستمارة التى تضم المعلومات قد تحتوى من الأسئلة ما لا صلة له بالموضوع، وهذا قد يجد تبريراً له فيما يقال: إن كل استمارة يجب أن تتضمن مجموعة أسئلة ضابطة، ومعنى ذلك أن هناك أسئلة لا تتناول بالتحليل موضوع البحث، ولكنها تسعى إلى جمع المعلومات القصد منها التأكد من صلاحية الحالة موضع التحليل، للاعتماد على صدقها فى نقل المعلومات، من الناحية العلمية قول سليم لا يمكن المناقشة فى صحته، ولكن من حيث الواقع، فإن هذا باب واسع للتحايل بحيث يسمح بالحصول على معلومات لا صلة بها بالبحث، ولكن الجهاز المتستر خلف البحث والمتخصص فى عملية جمع المعلومات يسعى للحصول عليها بجميع الوسائل، وهذا يذكرنا بالطبيب الذى يطلب من مريضته أن تكشف عن جسدها ليقوم بعملية الفحص، وهو لا يريد سوى أن يتمتع بالنظر إلى موضع الجمال بها، وقد يستغل ذلك والمريضة الساذجة التى تذكرنا بعالمنا المصرى لن تفهم ذلك إلا متأخرة وقد لا تفهم إطلاقا، وهناك من تفهمه وتتظاهر بعدم الفهم وتتمادى فى ذلك.
ولعله قد يكون من قبيل الاستطراد أن نطرح سؤالين:
الأول: هل حقا أنه فى بعض الأبحاث تأتى استمارة جمع المعلومات وقد تم إعدادها فى المراكز المتخصصة الأمريكية؟ ويكون دور عالمنا المصرى أن يبصم على الاستمارة ليضفى عليها صفة الشرعية؟
الثانى: هل الأبحاث المشتركة التى تتم فى الجامعات الأوربية واليابانية، بل وفى أمريكا اللاتينية تأخذ نفس هذه المنهاجية؟أسئلة محددة وكم كنت أتمنى أن يطرحها علماؤنا الأجلاء على زملائهم الأمريكيين الذين يشتركون معهم فى إعداد أدوات جمع المعلومات.د- وليكتمل هذا الإطار ننتقل إلى تلك المقولة الخاصة بأن المعلومات عن مصر وعن المجتمع المصرى .
متوفرة فى الخارج، وهذه الأجهزة قادرة بإمكانياتها من الحصول عليها دون عناء، منطق أيضاً أشد تفاهة، فلو أن الأمر كان كذلك فلماذا تنفق تلك الجهات الملايين؟الواقع أن المعلومات التى تسعى إليها هذه الأجهزة هى تلك التى تسمى بالمعلومات الخاصة بالمبرارت "Motivation"، أو بعبارة أخرى المتغيرات الدقيقة التى تستتر خلف السلوك، وخلف الوقائع، إن المعلومات المتوفرة فى الأجهزة الخارجية يغلب عليها طابع الوقائع Facts وليست المبررات، وهذه الأخيرة هى المحور الحقيقى لعملية التطويع ولنقدم نموذجاً:
شخص يرفض تنظيم النسل، هذه هى الواقعة أو الموقف، ولكن المبرر متغير داخلى: قد يكون التدين، ودرجة التدين، وقد يكون الرغبة فى إنجاب طفل ذكر والزوجة لم تنجب سوى إناث، وقد يكون رفض مصدر الدعوة لسبب عقائدى عنيف، رغم القناعة بصحة ومنطق موضوع تنظيم النسل، وقد يكون مصلحة مهنية كأن يكون الشخص الرافض طبيب صاحب مستشفى للولادة على سبيل المثال، وقد تعلم الأمريكيون من خبرة إيران أن الاقتصار على المعرفة بالوقائع لا يمكن إلا أن يقدم صورة مشوهة، بل إن نظرية السلوك بكاملها من منطلق التقاليد الأمريكية تخضع فى هذه اللحظة لعملية إعادة تشكيل كاملة، وأحد عناصر ذلك هو كل ما له صلة بالتنبؤ بالسلوك.
والآن ننتقل إلى الناحية الثانية، وهى المتعلقة بالعلماء ومدى إمكانية الاستعانة بهم فى الأبحاث المختلفة التى قد يطرحها أو يفرضها موضوع التعاون المشترك.موضوع لا شك فى منتهى الحساسية، فليس هناك موضع للمناقشة فى أن من صالحنا السعى نحو استعادة هؤلاء العلماء لحاجتنا الماسة إليهم، سواء بخصوص المشروعات الإنمائية الطموحة التى تفكر فيها جميع المجتمعات العربية، سواء لبناء جامعات ومراكز بحوث متقدمة، هذه المنطقة فى أشد الحاجة إليها، والإحصاءات المتوفرة لدينا تسمح بتقدير أؤلى للكفاءات. الأرقام بهذا الخصوص تصيبنا بالذهول، فالمهاجرين العرب من العلماء والمهندسين ما بين عام 1966 وعام 1977 أى خلال قرابة عشرة أعوام، قد بلغ عددهم فقط من الذين يحملون درجة الدكتوراه أكثر من ستة آلاف عالم، نصيب مصر وحدها يزيد عن ثلاثة آلاف.وهم على وجه التحديد 3310 موزعون بالشكل التالى ، مهندسون 2113- علماء فى الطبيعيات 1039- علماء الاجتماع 158 وذلك دون الأطباء وسائر العلوم الأخرى جميع المحاولات بخصوص استعادتهم لأرض الوطن باءت بالفشل، ولعل خير نموذج لذلك مركز الإسكندرية للدراسات العلمية الذى أنشئ فى عام 1972 وحددت لإنهائة فترة حوالى خمسة عشر عاماً، واستناداً إلى تقرير اليونسكو الذى ساهم فى المشروع، فإنه لم يستطع حتى عام 1980 أن يجتذب من العلماء المصريين المقيمين بالولايات المتحدة سوى أربعة أشخاص هم الذين عادوا نهائياً.والآن عودة للتساؤل هل يصلح هؤلاء العلماء، وبالتحديد العلماء المقيمون بالولايات المتحدة الأمريكية، للمشاركة فى أبحاثنا الميدانية وتحمل مسؤولية تلك الأبحاث، ونحدد أيضاً: الأبحاث المتعلقة بالمعلومات التى ترتبط بالأمن القومى؟
نحن نجيب بصراحة ووضوح: كلا وليست هذه الإجابة مردها التعصب الأعمى أو عدم الثقة فى علمائنا بالخارج، ولكنها إجابة مردها العديد من الاعتبارات التى يعود جزء منها بالأساس إلى صالح هؤلاء العلماء أنفسهم، ونحن نقدم حقا خلاصة أبحاثنا التى نقوم بها لحساب اليونسكو العربية، بصدد إنشاء جهاز الانتفاع بالخبرة العربية المهاجرة لصالح التطور الاقتصادى والتكنولوجى فى المنطقة العربية.
الأسباب عديدة ونحن نوجزها فيما له صلة بموضوعنا:
أولاً: هؤلاء العلماء العرب بما فيهم المصريون المقيمون بالولايات المتحدة لا يخرجون عن واحد من اثنين: إما أنهم يحملون الجنسية الأمريكية وفى جيبهم جواز سفر أمريكى وإما أنهم لم يحصلوا بعد على الجنسية فى الحالة الأولى هم قد أقسموا لحظة الحصول على الجنسية بألا يخدموا سوى الدولة الجديدة، وأنهم لم يعودوا ينتمون من حيث الولاء إلا لهذه الدولة التى يحملون جنسيتها، وأقل ما يمكن أن يحدث فى مثل هذا القِسْم، هو حالة من التمزق، لو فرض عليهم أن يختاروا بين الولاء الجديد والأمانة نحو الولاء القديم، فإن لم يكونوا قد حصلوا على الجنسية فهم يعلمون أن مستقبلهم ومستقبل أولادهم متوقف على الحصول على تلك الجنسية، ومن ثم فإن حالتهم تدعو للرثاء والشفقة أكثر منها للثقة والطمأنينة.
ثانياً: هؤلاء العلماء قد انقطعت صلتهم بالوطن الأم، ومجرد هجرتهم تعنى أن هناك أسباباً معينة تجعل علاقة الولاء ضعيفة أو غير متماسكة، ومن ثم فهم غرباء عن وطنهم سواء بسبب الانقطاع المادى أو الغربة المعنوية، وليست عملية مجيئهم عدة أيام أو أشهر بقادرة على أن تعيد إليهم ذلك الذى لم تستطع أن تكسبهم إياه حياة كاملة سابقة، وهذا لا علاقة له بمشكلة الولاء، إنه فقط يعنى أن منطق هؤلاء العلماء وطريقة تفكيرهم وأسلوبهم فى مواجهة المشاكل، لم يعد مصرياً ولا يجوز أن يغرينا أو يخدعنا سواء أصلهم المصرى أو أنهم يتكلمون العربية، أو أنهم يتحدثون دائماً عن الغربة والرغبة فى العودة إلى مصر.
إن اللغة تصير بالنسبة لهم رموزا وليست مفاهيم، عبارات وليست مدركات، وهم قد يصلحون أداة اتصال بيننا وبين المنطق الأمريكى، وذلك فقط لصالح هذا المنطق الذى لا يملك أداة أخرى، ولكن هؤلاء لا يستطيعون أن يعيشوا منطقنا وإدراكنا فى دينامياته وتطوراته المتعاقبة والمتتالية، فى عصر أضحى يتميز بالوثبات المتلاحقة.
إنهم يذكروننى بالمغنية " داليدا " التى كلما تحدثت قالت بأنها ولدت وعاشت شبابها فى شبرا، فهل هى اليوم قادرة علي أن تعيش فى شبرا، وتفهم أهل شبرا مرة أخرى؟ ولماذا نذهب بعيداً: هل من يدخل الجامعة الأمريكية فى القاهرة يشعر بأنه حقيقة فى القاهرة، وأن من بها يعيشون فى القاهرة؟
سؤال سوف نعود له مرة أخرى عندما نتعرض للوظيفة الحقيقية التى تتولاها الجامعة الأمريكية فى القاهرة، وكذلك جميع الجامعات الأمريكية فى مختلف أجزاء العالم .
ولكن ليسمح لى القارئ أن أذكره بواقعة شخصية: إننى لا أزال أتذكر التعليقات التى سمعتها عندما قدر لى أن أجرى دراسة ميدانية فى إحدى قرى الصعيد لحساب المركز القومى للدراسات الاجتماعية فى القاهرة، كانت قد نزلت قبلى وفى نفس العزبة باحثة مصرية آتية من أمريكا، تعمل لحساب الجامعة الأمريكية، وعندما ذهبت لتلك العزبة كانت تحمل فى حقيبتها عدة أنابيب مطهرة " د. د. ت"، وقبل أن تجلس تناقش الفلاحة المصرية فى موضوع بحثها، تبدأ الباحثة المتفرنجة تفرغ إحدى الأنابيب من حولها وتطلب من الفلاحة أن تظل بعيدة عنها عدة أمتار، وويل لها إن اقتربت منها، وكم سمعت من تعليقات على ذلك من أهالى تلك القرية!.
ثالثاً: وليسمح لى هؤلاء الأخوة أن أحدثهم بلغة صريحة: إن أغلبهم إن لم يكونوا جميعهم أدوات متقدمة للمخابرات الأمريكية يخضعون لتوجيهها بطريق أو بآخر، بل إن الكثير ممن درسوا فى تلك الجامعات وعادوا إلى مصر قد خضعوا لذلك التوجيه، لكن عودتهم إلى الأرض الوطن قد سمحت لهم ولو نسبياً باستعادة حريتهم وقدرتهم على عدم الخضوع المطلق، ولكن أولئك الذين يعيشون فى الأرض الأمريكية، يقعون تحت سيطرة العديد من تلك الأجهزة القادرة على أن تتغلغل فى جميع عناصر حياتهم، بل وفى بعض الأحيان فإن زوجاتهم الأمريكيات ليسوا إلا عملاء لتلك الأجهزة، هل يريدون أسماء؟ نحن على استعداد لأن نتحفهم بالكثير من النماذج، لا يعنى ذلك عدم الاستعانة بهؤلاء العلماء، ولكن يجب ألا نضعهم موضع الاختبار بالنسبة لمشاكلنا الأمنية التى لا بد وأن تفرض عليهم تمزقات عديدة، هم أنفسهم ليسوا راغبين فيها، علينا أن نساعدهم على ألا يوضعوا فى هذا المأزق، بأن نحجب عنهم التصريح بالمشاركة فى مثل تلك الأبحاث، ولتكن المبادرة من جانبنا بأن نغلق ذلك الباب الذى ليس لصالحنا، بل ولا من صالح هؤلاء العلماء أنفسهم أن يتورطوا فى متاهاته، وما يفرضه من مشاكل وما يخلقه من مخاطر، ولو كان ذلك فقط من قبيل الحيطة فإنه جدير بالاعتبار.
بطبيعة الحال أحدد مرة أخرى: أننى أقصد أولئك العلماء الذين لا يزالون يقيمون فى الولايات المتحدة من جانب وعندما يتعلق الأمر بجمع معلومات ترتبط بأمننا ثانياً، ولكن هذا لا يمنع من الاستعانة بهم فى خارج ذلك النطاق من جانب، ومن محاولة استعادتهم إلى الوطن الأم، التى لا تزال فى حاجة إلى خدماتهم وجهودهم من جانب آخر.
وهكذا نصل إلى النقطة الثالثة المتعلقة بالاستراتيجية الأمريكية الجديدة وموقع سياسة جمع المعلومات من هذه الاستراتيجية.مما لا شك فيه أن الحديث عن هذه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، موضوع معقد متشابك لا نستطيع أن نصفه فى كلمات محدودة، ولكن التعرض له فى نطاق علاقته السياسية بجمع المعلومات يصير ضرورة أساسية لفهم الموضوع الذى نتناوله بالتعليق، والوقائع، أن الحديث عن هذه الاستراتيجية بدأ يتردد فى صورة خافتة هامشية عقب الانسحاب من فيتنام، ليصير قوياً مدوياً فى أعقاب أزمة الرهائن، وليصير سياسة صريحة واضحة مع وصول ريجان إلى السلطة، على أنه يمتد فى حقيقته من حيث أصوله إلى فترة حكم كيندى عندما قدر لماكنمارا أن يتولى وزارة الدفاع وأن يجمع حوله طائفة من أكثر العقول الاستراتيجية حنكة، لوضع أصول التحرك الدولى من منطلق مصالح الإمبراطورية الأمريكية.
فنلقف إزاء تلك العناصر الأساسية المرتبطة بموضوعنا:
أولاً: اتساع مفهوم الأمن القومى الأمريكى.
ثانياً: الترابط بين منطقة الخليج العربى وجنوب شرق أوروبا.
ثالثاً: العودة إلى ما يسمى بنظرية الجبن والضعف.
رابعاً: مواجهة أى حركة ترمى إلى تغيير الوضع القائم فى دول العالم الثالث بالعنف والاستئصال.
هذا العنصر الأخير هو الذى يقودنا إلى سياسة المعلومات، على أن توضيح العناصر الثلاثة الأول يكمل هذا الإطار الكلى للإدراك الأمريكى.فأول هذه العناصر هو اتساع مفهوم الأمن القومى الأمريكى بشكل لافت للنظر، عندما ربطت الولايات المتحدة بين أمنها القومى ووجود إسرائيل، وُصِفَ ذلك فى حينه بأنه توسع مبالغ فيه، اليوم أصبح ينظر إلى أى تغير فى العالم على أنه تهديد للأمن القومى الأمريكى، لقد أضحت حماية المواد الأولية فى دولة كجنوب إفريقيا، الدولة العنصرية، التى تضرب عرض الحائط بجميع المفاهيهم والمثاليات التى تقوم عليها الأسرة الدولية، وهى أحد عناصر الأمن القومى الأمريكى، وقد ترتب على هذا التصور أن الولايات المتحدة تسيطر عليها قناعة واحدة: لم تعد المخاطر التى يتعين عليها أن تواجهها لتسمح لها بالاعتماد على الآخرين: لا حلفاء ولا دول تابعة يجب أن تخلق أدواتها الذاتية فى كل منطقة.
يرتبط بهذا تطور خطير فى مفهوم التعامل الاستراتيجى، أحد محاور الصدام المحتمل باسم منطقة القلب، وهى الممتدة من جنوب شرق أوروبا، حيث مواقع الحلف الأطلنطى حتى وسط المحيط الهندى، حيث جزيرة " ديجوجارسيا " التى تتمركز بها أكبر قاعدة أمريكية عرفها التاريخ حتى اليوم، ويتبع ذلك أن هذه المنطقة يجب أن تدخل فى دائرة الاستعداد، حيث المسرح الثانى لحرب فى مستوى الصدام فى وسط أوروبا مع احتمالات التدفق الروسى وحلف وارسو.
هذا يقودنا إلى العنصر الرابع الذى يرتبط مباشرة بموضوع هذه الدراسة، والواقع أن هذا العنصر ينطلق من مقدمات معينه تدور حول أسلوب التعامل مع دول العالم الثالث، فأى حركة فى تلك الدول ترمى إلى تغيير الوضع القائم يجب أن تواجه بالعنف . ، إنها نوع من الإرهاب الدولى، يقول هيج عندما كان مسؤولاً عن وزارة الخارجية بهذا الخصوص: إن مفهوم مقاومة الإرهاب . الدولى- وهو الاصطلاح الذى استخدم للتعبير فى العالم الثالث - يجب أن يحل فى اهتمامنا موضع مفهوم الدفاع عن حقوق الإنسان، وكذلك فإن مواجهة هذا الإرهاب الدولى يجب أن تتم من خلال استخدام القوة العسكرية، من العبث الحديث عن الإصلاح أو التقدم أو التجديد، الذى يعنى القيادات الأمريكية هو القدرة على الاستئصال الجسدى والعنصرى للقوى الثورية والقيادات الرافضة وهكذا فإن النظرة الأمريكية الجديدة واقعية وعنيفة فى واقعيتها، إنها لا تؤمن بفكرة الإصلاح ولا بكل ما يتصل بغزو القلوب، هى تكتفى بغزو القوى الثورية، واستئصالها بالأدوات العسكرية، أو ما فى حكمها، أما ما عدا ذلك فلا يعنيها، لأنه مضيعة للوقت والمال. ولكن ما هى أدوات تنفيذ تلك السياسة فى دول العالم الثالث؟
أدوات عديدة ليس هذا موضع التفصيل بخصوصها." ولكنها تنبع من مفهومين أساسيين الوقاية أولاً خير من العلاج، ومن ثم يجب ألا تنتظر حتى تتفجر الثورة أو حركات الرفض، بل يجب اقتطاعها مسبقاً، والثانى عندما يحدث التدخل فلندع جانباً مفهوم التدرج فى التدخل، وإنما يجب أن يكون هذا التدخل كثيفا صاعقاً.
بعبارة أخرى أول ما يجب أن تهتم به الإدارة الأمريكية هو عملية حصر حقيقية للقوى والقيادات القادرة أو الصالحة لأن تكون بؤرة رفض على قسط معين مهم من الفاعلية، وعندما تكتشف الإدارة ذلك عليها أن تلجأ إلى جميع الوسائل لاستئصال تلك القوى والقيادات.الترغيب والتطويع خطوة أولى وإن لم تفلح فالقبض والسجن خطوة ثانية، وإلا فالقتل والاسئصال الجسدى ".
وقد أرفق الكاتب صورة فوتغرافية من جريدة "لموند الدبلوماسى" الفرنسية" Le Monde Deplomatique ".. عدد أبريل 1981:
"نشرت تقرير " ميتشيل كلار " الخبير فى التحليل السياسى، واحد ممن ساهموا فى وضع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التى بدأت من أول كارتر.. يعمل باحثا فى معهد دراسات التخطيط السياسى بواشنطن- صاحب المؤلف المشهور بعنوان " حرب بدون نهاية " الذى يؤكد فيه ضرورة أن تدخل الإدارة الأمريكية فى قناعتها استمرار التدخل فى العالم الثالث دون توقف.فى هذا التقرير تحدث عن التخطيط الأمريكى لمواجهة حركات الرفض فى دول العالم الثالث، على أساس تغيير الاستراتيجية التى كان يتبعها كيندى، واتباع استراتيجية جديدة، مفادها ليس خلق القناعة بالتعاون مع الإدارة الأمريكية وإنما استئصال مفاصل القوة فى المجتمعات موضع الغزو من دول العالم الثالث ".
هذا ما يكتبه بصراحة " ميتشيل كلار " الخبير فى معهد التحليل السياسى بجامعة واشنطن، وهو ما يسمح لنا بأن نفهم الوظيفة التى تؤديها مراكز البحوث المنتشرة خلف مزاعم الأهداف والاعتبارات الأكاديمية، وهو أيضاً ما يوضح النوايا الحقيقية من عمليات جمع المعلومات الميدانية، يقول الكاتب المذكور بكلمات صريحة، ليست فى حاجة إلى تعليق: " ولتستطيع هذه السياسة أن تكون مجدية، فإن السياسة الأمريكية تفحص الملاحظة المستمرة لسلوك المواطنين من خلال ناقلى المعلومات للإدارة الأمريكية، وكذلك من خلال وضع نظام حديث للتصنت والمراقبة فضلا عن معالجة المعلومات ".
ترى هل قرأ علماؤنا تقرير هذا العالم؟ وهو أحد من ساهموا فى وضع هذه الاستراتيجية؟ هذا التقرير قد نشرته جريدة " لموند " الدبلوماسى فأقام الدنيا وأقعدها فى جميع أجزاء أوروبا، ولكن علماؤنا الأجلاء لا يزالون يغطون فى النوم.فهل من مستمع؟! ".وتحت صورة لكتاب بالفرنسية عنوانه: غزو الأرواح “La Conquete des esprites” كتب حامد ربيع:
" أصدره الناشر اليسارى الفرنسى " ماسبرو " سنة 1982، وهو يحدد مصادر التصور الأمريكى لغزو العقول فى العالم المعاصر بما فى ذلك أوروبا، وكيف أن التفكير بدأ أثناء الحرب العالمية الثانية.هذه الوثيقة خطورتها فى أنها تحدد مصادر غير معروفة وغير متداولة، عن كيفية دراسة وإعداد هذا المخطط منذ الحرب العالمية الثانية نفسها، ويقال: إن سبب مقتل فلترينلى الناشر الإيطالى اليسارى المشهور يرتبط بهذه الوثيقة ".
وتحت صورة لكتاب آخر بالإيطالية كتب حامد ربيع:" سالمون أشهر فيلسوف ألمانى- تصدى للغزو الفكرى الثقافى الأمريكى لألمانيا من سنة 1951. الكتاب الأصلى باللغة الألمانية صادر سنة 1951، وتمت ترجمته إلى الإيطالية سنة 1954، الغريب أن تلميذه هو (خيمر) أستاذ علم النفس السياسى، ومن أشهر أطباء علم النفس فى جامعة برلين اختفى فى الستينات ولا نعرف عنه شيئا ". عزيزي القاري العربي برجاء القراءة بتركير بين يديك كنزمن المعلومات التي سوف تساعد علي فهم الواقع وقراءة المستقبل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق