الأربعاء، 12 ديسمبر 2018

احتواء العقل المصرى


احتواء العقل المصرى
هذا هو المقال الأول للدكتور حامد ربيع في سلسلة المقالات التي نشرت بعنوان " احتواء العقل المصري، " في الأهرام الاقتصادي " العدد 733 القاهرة في 31/1/1983 

 الدكتورحامد عبد الله ربيع

"هل حقا عاد الوعى إلى مصر؟ 
مصر الخالدة، التى ظلت دائماً صامدة أمام أى عدوان؟ نعم إنها الأنثى التى تعرف بحسها اللاشعورى ابنها الحقيقى، من ذلك الذى حملته سفاحاً، فجاء يلطخ اسمها بالأوحال. 
مصر التى لم تعرف خلال تاريخها الطويل سوى الآلام، ومع ذلك فهى قائدة بتضحياتها، قوية بإيمانها، راسخة بصلابتها، هذه هى التى أتوجه إليها بالحديث، أؤكد لها أن أبناءها الحقيقيين سوف يظلون على عهدهم عصبها الحقيقى، ودرعها الواقية، وسوف يحمون بجسدهم قيمها الحقيقية، قيم الصلابة السلوكية، والقوة المثالية، قيم الوظيفة الحضارية والقيادة التاريخية.

أ- موضوع إعادة وصف مصر، لا يمكن فصله عن حقائق ثلاث، مجموعها يكون الإدراك الحقيقى للتعامل الدولى، الذى خضعت له مصر دائماً، بل والمنطقة العربية سواء سميت هذه بمنطقة الشرق الأوسط أو بالوطن العربى، وهى حقائق ليست جديدة بل إننا فقط لم نعد نعرف تاريخنا وقد أضحينا نتجاهل خبرة آبائنا وأجدادنا فى التعامل مع القوى ذات الأطماع الاستعمارية.
أول هذه الحقائق: الرغبة الثابتة فى معرفة مصر من الداخل، وتحليل خصائص منطقها وأسلوب التعامل مع عقليتها وعقلية قياداتها السياسية والفكرية، هذه المعرفة لا تعود إلى الأمس القريب، ولا تبدأ فقط مع الحملة الفرنسية، وكتاب وصف مصر.
إن تحليل دراسة الماضى تثبت أن هذه الحقيقة تعود إلى أقدم العصور، بل وإلى عصر البطالسة على وجه التحديد، عندما حدث أول صدام حقيقى مع امبراطورية كبرى، ولكننا لو اقتصرنا على العالم المعاصر، لوجدنا أول تعامل مع هذا المفهوم يقودنا إلى فترة حكم على بك الكبير الذى يندر أن يذكره أحد، هو أول من حاول بناء دولة كبرى فى منطقة الشرق الأوسط، وقد كشفت الوثائق التى قدر لنا أن نطلع عليها ونحللها، أنه فى فترة حكمه، وهى فترة فكرت فيها فرنسا بدورها فى مد نفوذها إلى وادى النيل، والتدخل فى هذه المنطقة أرسلت أحد أبنائها واسمه " سافادى "، عاش فى مصر ثلاثة أعوام، أرسل خلالها مجموعة من الخطابات إلى المسؤولين، موجودة حالياً فى المكتبة الوطنية بباريس باسم " رسائل من مصر " ومن يرد أن يعرف كيف كان يتولى هؤلاء الجواسيس جمع المعلومات من منطلق الفضول ظاهرياً ومن منطلق التخطيط الواعى لفهم عقلية هذه البلاد، التى يرغبون فى الاستيلاء على خيراتها فعلاً، فليس عليه سوى أن يطلع على هذه الخطابات، المجموعة فى ثلاث مجلدات بباريس، وتوجد منها نسخة معروضة للبيع لدى المكتبة الشرقية بشارع "Monsieur Le Prince" حاولت أن أحصل عليها فى الصيف الماضى ولكننى كنت عاجزاً إزاء ثمنها وهو حوالى ألف ومائتا جنيه.
الحقيقة الثانية: تدور حول طبيعة المخطط الاستعمارى ( ) من حيث خصائصه العامة نى التعامل مع مصر، إنه دائماً يسير فى خطين متوازيين، خلق الفرقة بين القيادة المصرية والشعب المصرى من جانب، وفرض العزلة فى العلاقات بين مصر والدول المحيطة بها من جانب آخر، وكان محور ذلك دائماً التعامل النفسى، هذا المحور قد يختلف من حيث تشكيله وأداته من مرحلة لأخرى، ومن مستعمر لآخر ، لأنه ينبع من التصور لأسلوب الغزو، ومنطق الفتح، ولكن تحطيم الثقة فى الذات القومية كان دائماً العنصر الأساسى فى عملية الغزو المعنوى، وقد بدأ ذلك من الفتح الرومانى عقب مقتل كليوباترا خرج رسل قيصر روما الجديد ولديهم أمر واحد صريح تحطيم معبد الكرنك، لماذا؟ لأن معبد الكرنك لم يكن مجرد منزل الإله، بل لأنه كان يمثل أكبر جامعة فى العالم القديم، علماء الكيمياء والطب والتشريح واستخراج المعادن، كانوا فى رداء الكهنوت فى ذلك المعبد بالمئات، بل وبعض النصوص اللاتينية تحدثنا عنهم بالآلاف، تحطيم الكرنك لم يكن يعنى مجرد تحطيم معبد، ولكنه استئصال للعلم والتكنولوجيا المتقدمة، التى عرفتها أرض وادى النيل.
الاستعمار الفرنسى ورث الاستعمار الإنجليزى، وكلاهما ورث وعاش مفاهيم استراتيججة القيادات الرومانية ، ومن المعلوم أن رعاة البقر القادمين اليوم من القارة الجديدة، يصفون أنفسهم بالقياصرة الجدد، وهكذا علينا ألا نندهش إزاء سياسة استعمارية تنطلق من مبدأ اختصاص قدراتنا العلمية ومواهبنا الإبداعية كيف؟
سوف نرى ذلك فيما بعد وفى موضعه، وسوف ندرك حينئذ الخطورة الحقيقية لهذا الموضوع الذى نحن بصدده، وكيف أن على الدولة أن تستيقظ، وعلى الحاكم أن يفتح عينيه دوماً ليعرف كيف أن كيان أمة قد أضحى موضع التهديد.
بل إننى أتساءل هل نستطيع الآن أن ننقذ الجسد مما ألم به؟ قبل أن تصيبة مآسى حقيقية؟ ألم يعد الوقت متأخراً ؟
الحقيقة الثالثة: التى يجب أن ندخلها فى الاعتبار وهى أن الاستعمار الذى يعرفه العالم المعاصر ينطلق من مفهوم الاستعمار الجديد، والاستعمار الجديد يعنى بأبسط الكلمات: خلق التبعية المعنوية.
التبعية قديماً كانت أداتها هى القوة الغاشمة والقهر المادى والعضوى، جيش يأتى فيحتل الأرض المراد استغلالها والحصول على ثرواتها.
اليوم هناك أسلحة أكثر فتكاً وأقل تكلفة: أسلحة نفسية ( ) تواضع العلماء على تسميتها بكلمة الغزو المعنوى، هذا هو مفهوم الاستعمار الجديد، هذا المنطق تختلف أساليبه، أو بعبارة أدق تختلف فلسفة التعامل بخصوصه، فالمنطق الفرنسى يدور حول خلق التبعية من المنطلق الحضارى، ومن خلال زرع كلمات الفكر الفرنسى.
الروسى يفضّل منطق الولاء والقناعة الأيديولوجية، وهكذا تصير الاشتراكية والعدالة، الاشتراكية والمساواة بين الشعوب رداء فضفاضاً يستتر خلفه منطق التغلغل، وخلق التبعية المعنوية.
الأمريكى ابتدع مفهوم التنمية وأسلوب الحياة الأمريكى، هو يجمع بين عنصرين كل منهما يكمل الآخر: عنصر القناعة الفكرية بالتنمية وما ينطوى تحتها من مثاليات، بحيث تستوعب فى نظام القيم القومية من جانب، ثم عنصر الممارسة والحياة الواقعية من خلال تقديم نموذج الوجود الأمريكى، على أنه المثل الأعلى فى العالم المعاصر للمجتمع المثالى، وهو يسعى بهذا المعنى لخلق التبعية السلوكية أولاً من جانب الجماهير، وثانياً التبعية الفكرية لتلك المتعلقة بالفئة المختارة، وذلك دون الحديث عن التبعية المصلحية للفئات المنتفعة.
وسوف نرى كل ذلك تفصيلاً فى موضوع آخر.
ب- قد يتصور البعض أن كاتب هذه الصفحات يبالغ ويضخم، ولكننى أؤكد أن تحت يدى من الوثائق مايجعل أى مواطن مؤمن بواجبه لو قدر له الاطلاع عليها يخجل مما يحدث حوله، وهو صامت لا يرفع راية التحدى والمطالبة بوضع حد لهذا التسيب الذى تعيشه مصر منذ عدة أعوام.
ولنقتصر مؤقتاً على بعض المنطلقات:
ا- أول هذه المنطلقات: هو أن التفكير فى هذه العملية أى فى عملية الغزو المعنوى العقلى والفكرى للعالم الثالث، بل وللعالم الأوربى نفسه لا يعود من جانب القيادة الأمريكية إلى الأمس القريب، يوجد فى منطقة الأوهايو بشمال أمريكا، وعلى وجه التحديد بمدينة كليفلاند مبنى يحمل اسماً ترجمته الحرفية " القضية الغربية " الدخول إلى هذا المبنى الذى يوصف بأنه جامعة أصعب من التطرق إلى دهاليز البنتاجون، وأتحدى أن يكون أحد حضرات العلماء الذين أقبلوا على السادة الأمريكيين يخدمونهم بكل هذه القناعة، قد سمع بها أو علم بما يحدث فى داخلها، عندما كنت بالولايات المتحدة فى صيف عام 1973 وقبل حرب أكتوبر فى مهمة رسمية لحساب السلطات المصرية، حاولت أن أدخل هذه الجامعة، ولو لعدة ساعات فلم أستطع، ورغم أننى استطعت أن أدخل حاخامية القيادة الصهيونية، وأجلس مع "دانييل سيلفر" ابن أكبر الدعاة للصهيونية الأمريكية وأطلع على خطاباته أقصد أباهى لِلَيل سيلفر فقد ظلت أبواب هذه الجامعة مغلقة بالضبة والمفتاح أمام كل محاولاتى وخلال شهر كامل.
2- لدينا اليوم دراسة قامت بنشرها إحدى دور النشر الفرنسية، وهى متداولة فى الأسواق منذ الشتاء الماضى، ورغم أننى فى هذه اللحظة لا أذكر اسم المؤلف أو الدار إلا أنها موجودة لدينا بالقاهرة، وكم كنت أتمنى أن تترجم إلى اللغة العربية، وبصفة خاصة

أن تجميع الوثائق التى تستند إليها هذه الدراسة من تقارير سرية، تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
وكيف منذ تلك الفترة بدأت القيادة الأمريكية المسؤولة تخطط لكيفية غزو العقول والأفئدة. فقط أود أن أضيف بأن مقتل الناشر اليسارى الإيطالى المشهور " فلترينللى" منذ قرابة عشرة أعوام والذى ظل يحيط به الغموض حتى وقت قريب، الجميع يعلم اليوم أنه مرتبط بهذه الوثيقة، وفى التفكير فى طرحها على الرأى العام الأوربى، وليس ذلك لأن الرأى العام الأوربى يخشى على مصير مصر، ولكن لأن هذا المخطط يتجه أيضاً إلى العالم الأوربى.
3- ولعله يكفى التأكيد بهذه الحقيقة وما يرتبط بها، من تصور أمريكى لأساليب الغزو الفكرى، أن نعود إلى ما حدث فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، فى كل من اليابان والمانيا الغربية، ولنحدد مصادر المعلومات بهذا الخصوص، حتى لا تخرج علينا أبواق التكذيب، أول مصدر هو كتاب العالم الأمريكى " الأشهر كاهن " عن اليابان ولنتذكر أن " كاهن " هو العقل المفكر لمؤسسة "راندكوربوريشن"، وقد كان أى " كاهن " مستشاراً للرئيس كيندى فى لحظة معينة، هذا الكتاب يحمل عنوان: (اليابان).
أما عن ألمانيا فلدينا وثيقة خطيرة كنا نتمنى أن تترجم إلى اللغة العربية، ونحن على استعداد لأن نقدمها مجاناً لأى جهة علمية مصرية تتعهد بتلك المهمة ، هذه الوثيقة تحمل عنواناً له دلالة: " سوف أظل بروسيا " كتبها الفيلسوف الألمانى الشهير (سالومون). ظروف هذا الكتاب الضخم الذى يقرب من ستمائة صفحة والذى أصدره فيلسوف ألمانيا الأشهر عام 1954 هو أنه سقطت فى يده بطريق المصادفة، أداة جمع المعلومات التى كانت قوات الاحتلال الأمريكى فى ألمانيا قد قامت بتنفيذها، لدراسة خصائص الطابع القومى الألمانى، ويستطيع القارئ أن يجد تفاصيل بهذا الخصوص فى مؤلفنا بعنوان " مقدمة فى العلوم السلوكية " وبصفة خاصة طبعته الثانية " دمشق عام 1981 " هذا الحادث له دلالة متعددة الأبعاد:
أولاً: أسلوب جمع المعلومات الميدانى، هو المسيطر على المنطق الأمريكى، كنتيجة للمدرسة السلوكية التى تتحكم فى المنطق العلمى للتحليل الاجتماعى والسياسى فى تلك التقاليد.
ثانياً: إن هذه المعلومات ليست بقصد علمى منزه، لقد كانت تقوم بها فى ألمانيا واليابان قوات الاحتلال، وتخضع لإدارة عسكرية، وهى اليوم فى المجتمعات المتخلفة تتولاها أجهزة فى ظاهرها جهات مدنية، ولكنها تنتهى بأن تصب فى أجهزة الأمن القومى الأمريكى الصانعة للسياسة الخارجية لتلك الدولة، أو على الأقل المحددة لأهم مؤشرات ومتغيرات تنفيذ تلك السياسة.
ثالثاً: كذلك فإن هذا المفهوم للتعامل لا يعود للأمس القريب، لقد طُبّق فى ألمانيا الغربية منذ أعقاب الحرب العالمية الثانية، وطبق بالنسبة لليابان منذ فترة سالفة على الحرب العالمية الثانية. يخبرنا " كاهن" فى مؤلفه السابق ذكره بأن ذلك تم أثناء الحرب حيث طبق على اليابانيين المقيمين بالولايات المتحدة بل ومنذ عام 1942.
رابعاً: ونستطيع أن نضيف إلى ذلك أنه بالنسبة للمنطقة العربية، فإن تطبيق هذا الأسلوب لا يعود إلى الأمس القريب، يخطئ من يتصور أن بداية عملية جمع المعلومات الميدانية عن مصر تعود فقط إلى عدة أعوام، لقد بدأت الولايات المتحدة فى تنفيذ هذه السياسة مند عهد عبد الناصر، وعلى وجه التحديد عقب حوادث وحدة مصر مع سوريا، ثم حرب اليمن، ولكن تم ذلك خلال تلك الفترة بطريق الوسيط، وأستطيع أن أؤكد أن ذلك تم خلال الفترة من خلال منظمة فورد ( ) التى بدورها عهدت إلى بعض الإيطاليين وواحد منهم دون ذكر اسمه مؤقتاً شخص تصفه الأوساط العالمية الإيطالية بأنه اكبر " نصّاب " فى تاريخ إيطاليا العلمى الحديث، قام بإنشاء مركز مصطنع وهمى فى إحدى الشقق الخاصه بروما ومن خلاله استطاع التسرب إلى مصر عن طريق بعض الأجهزة المسؤولة ذات البريق الجذاب، وقام بجمع المعلومات اللازمة، سواء بخصوص تطور العمالة المصرية فى العالم العربى، أو سواء بصدد انتشار المفاهيم والمدركات المصرية فى العالم العربى، وأثر كل ذلك على الاندماج العربى، وهذه الدراسات التى نوقشت فى ميلانو وشاءت المصادفة إلا أن أحضر المناقشة، بوصفى أستاذاً خارجياً فى جامعة روما، كانت هى الأساس الذى استتر خلف سياسة واشنطن، عقب ذلك ابتداء من عام 1974 وانتهاء بالتوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد.
وسوف نعود للتفاصيل وندعمها بالوثائق.
ب- كل هذا يقودنا إلى أهداف تلك السياسة الخاصة، بجمع المعلومات، ورغم أننا سوف نطرح التفاصيل فى مقالاتنا المتتابعة إلا أننا نود منذ البداية أن نذكر بأن عملية جمع المعلومات هذه تستند إلى تحالف وثيق، وتنسيق بين الأجهزة الأمريكية من جانب والأجهزة الاسرائيلية من جانب آخر، وأجهزة حلف الأطلنطى من جانب ثالث، والمخابرات الأمريكية بصفة خاصة تعمل بتوافق تام مع أجهزة الأمن الإسرائيلى، والسؤال الذى يجب أن نطرحة بصراحة ووضوح، ما هى أهداف السياسة الإسرائيلية البعيدة المدى والتى تتفق مع السياسة الأمريكية، وكيف تستطيع عملية جمع المعلومات هذه أن تخدم كلا السياستين ؟
لقد ظلت مصر دائماً فى جميع مراحل تاريخها متماسكة، قومياً وسياسياً واقتصادياً، لماذا ؟
التاريخ والطبيعة الجغرافية والتقاليد الحضارية تجيب على هذا التساؤل، ولكن ما هو أخطر من ذلك؟ هو أنه لم يكن من صالح الدول المستعمرة أو المحتلة تجزئة مصر، ستة آلاف عام ظلت خلالها مصر ومنذ عهد (مينا) دولة واحدة تعبر عن كيان قومى واحد. ولكننا اليوم نعيش مرحلة فيها قوى دولية تطمع فى مصر، ومن صالحها تجزئة ذلك الكيان فهل نحن على وعى بذلك؟ لأنها فى نهاية القرن سوف تصير ثمانين مليوناً ولأن موقعها الاستراتيجى أضحى أكثر خطورة على مصالح القوى الكبرى ، ولأن حقيقة الصراع الدولى تغيرت معالمه وخصائصه، ولو استطاعت مصر أن تهيئ لنفسها قيادة حقيقية فهى مؤهلة، لأن تجمع تحت رايتها جميع دول المنطقة العربية، وهذا يعنى نتيجتين:
أولاً: انتهاء إسرائيل سواء باستئصالها واقتطاع وجودها، أو بذوبانها وابتلاعها.
ثانياً: وضع حد لعملية النهب التى تمارسها القوى الدولية والشركات الكبرى المتعددة الجنسية فى جميع أجزاء المنطقة العربية.
من يريد أن يعرف كيف تفكر القيادة الإسرائيلية، فليعد إلى كتاب "بن جوريون " الذى أنهاه قبل موته بعدة أشهر، والذى يعتبر وصية للجيل الذى أعقبه بعنوان "A Personal History " " تاريخ شخصى " كتاب ضخم يقع فى حوالى ألف صفحة يشرح فيه كاتبه من خلال حياته تطور وظيفة إسرائيل فى منطقة الشرق الأوسط، فهل قرأه أحد من السادة علماء السياسة الذين تطوعوا لخدمة السادة الجدد لقاء عدة ملاليم دون وعى ودون حياء؟
فلنعد للتساؤل: ما الذى تخطط له إسرائيل بالنسبة لمصر فى الأمد البعيد ولو نسبياً ؟
إن المخطط العام الذى يسيطر على القيادة الصهيونية، وهو تجزئة المنطقة وتحويلها إلى كيانات ( ) صغيرة يسيطر عليها مفهوم الدولة الطائفية، ومصر هى الدولة الوحيدة التى سوف تقف عقبة فى وجه هذا المخطط.  ولكن هذا لا يمنع القيادة الصهيونية من أن تفكر فى تنفيذ نفس السياسة أيضاً بصدد وادى النيل، بل إن المخاطر التى يتعرض لها هذا الكيان الصهيونى، لو ظلت مصر فى تماسكها أولاً وفى تضخمها الديمقراطى ثانياً، وفى تقدمها العلمى والتكنولوجى ثالثاً هى قاتلة والقيادة الإسرائيلية تعلم ذلك جيداً، فهل تقف صامتة؟

الخيال الصهيونى يتصور هذه التجزئة فى أربعة ( ) محاور أساسية:
أولاً: محور الدولة القبطية الممتدة من جنوب بنى سويف حتى جنوب أسيوط، وقد اتسعت غرباً لتضم الفيوم التى بدورها تمتد فى خط صحراوى يربط هذه المنطقة بالإسكندرية التى تصير عاصمة الدولة القبطية، وهكذا تفصل مصر عن الإسلام الإفريقى الأبيض وعن باقى أجزاء وادى النيل ( ).
ثانياً: ولتزيد من تعميق هذه التجزئة تربط الجزء الجنوبى الممتد من صعيد مصر حتى شمال السودان باسم بلاد النوبة بمنطقة الصحراء الكبرى، حيث أسوان تصير العاصمة لدولة جديدة دولة تحمل اسم دولة البربر.
ثالثاً: الجزء المتبقى من مصر سوف تسميه مصر الإسلامية وهكذا تصبغ الطابع الطائفى على مصر بعد أن قلصتها من عاصمتها التاريخية فى الشمال وعاصمتها الصناعية فى الجنوب.
رابعاً: وعندئذ يصير طبيعياً أن يمتد النفوذ الصهيونى عبر سيناء ليستوعب شرق الدلتا بحيث تصير حدود مصر الشرقية من جانب فرع رشيد، ومن جانب آخر ترعة الإسماعيلية، وهكذا يتحقق الحلم التاريخى ( ) من النيل إلى الفرات، طبقاً للشطر المتعلق بالفرات ليس هذا موضعه ولكنه بدوره يخضع لتصور آخر.
سوف نسمع الصيحات: خيال مريض! ولكن ألم نصف ما حدث فى لبنان منذ عشرة أعوام بأنه خيال، وها هو اليوم يتحقق أمام أعيننا؟ عندما كتبنا ننبه الأذهان فى كتابنا عن " الحرب النفسية " قبل حرب أكتوبر اتهمنا بالمبالغة وكنا نتمنى فى قرارة أنفسنا أن نكون فعلاً مبالغين، ولكن ها هو كل ما تنبأنا ( ) به قد تحقق، واليوم هذه التصورات التى نطرحها سبق وحددناها فى كتابنا عن " اتفاقيات كامب ديفيد " ونعود اليوم لنؤكدها وقد ازددنا قناعة، بل نود أن نضيف بأن الوثائق المتعلقة بالحديث عن "جمهورية سيناء المستقلة" موجودة فى مصلحة الاستعلامات بالقاهرة، فهل فكر أحد فى تحليل واستخلاص دلالتها من هذا الجهاز الضخم المسؤول عن أمن مصر؟
سؤال ليس فى حاجة إلى إجابة.
إن أخطر ما يجب أن نلحظة، وأن نؤكد عليه هو أن التطور الذى نعيشه جعل سياسة القوى الكبرى تتتفق فى مصالحها مع سياسة إسرائيل، لا فقط بمعنى عزل مصر بل وبمعنى تجزئة مصر، ورغم أننا أيضاً سوف نعود لهذا بتفصيل فى مواضع أخرى، إلا أننا نقتصر بهذا الخصوص على أن نطرح علامات الاستفهام التالية:
أولاً: لماذا اهتمت الأبحاث الميدانية التى أجرتها الهيئات الأمريكية على وجه الخصوص بمحافظة الفيوم وكذلك بمدينة أسوان؟
ثانياً: وهل الاهتمام بمحافظة الفيوم ينبع من التصور الإسرائيلى بخصوص الدولة القبطية؟ الذى أساسه ضم الفيوم إلى المحافظات الأخرى السابق ذكرها، وشق طريق صحراوى يربط هذه المنطقة عبر وادى النطرون بالإسكندرية، التى سوف تصير عاصمة للدولة الجديدة، وقد اتسعت لتضم أيضاً جزءاً من المنطقة الساحلية الممتدة حتى مرسى مطروح ؟
ثالثا: وهل هناك علاقة بين الاهتمام بأسوان، والحديث المتردد عن دولة البربر، التى سوف تمتد حينئذ لتشمل الصحراء الكبرى من جنوب المغرب حتى البحر الأحمر؟
التفكير فى دولة البربر قديم، أثارته بعض الاتجاهات الاستعمارية الفرنسية قبل الحرب العالمية الثانية، وعندما بدأت تتكشف أهمية البترول المنتشر فى الصحراء الجزائرية وحولها، ولكن التفكير اصطدم بعدم وجود مدينة فى جميع أجزاء هذه المنطقة، لتجعل منها فرنسا عاصمة للدولة الجديدة، وبينما راحت الأقلام تلح على التفكير الجدى فى إنشاء تلك العاصمة، نشبت الحرب، وتوقفت جميع هذه المشروعات، اليوم الأهداف مختلفة: فالسياسة الأمريكية تريد خلق حائط يمنع الإسلام العربى من الالتقاء بالإسلام الأسود ( ) وهى تريد أن تحمى مراكز الثروة الطبيعية فى وسط إفريقيا، وهى تعلم جيداً حاجتها إلى تلك المصادر، التى أضحت توصف بأنها مصادر للمعادن الاستراتيجية، ولنتذكر على سبيل المثال النيكل والبلاتين والقصدير، دون الحديث عن اليورانيوم، وهكذا تلتقى أهداف التجزئة لمصر مع أهداف الإحاطة، والتحزيم للسياسة الإمبريالية، فهل سوف تحل مدينة أسوان هذه المشكلة ؟ لتصير عاصمة الدولة البربرية؟ والجميع يتحدث اليوم عن الوحدة الثقافية لشعب البربر وعن الالتقاء الطبيعى بين شعب النوبة والشعب البربرى، فهل هذا عشوائى؟
رابعاً: وهل صحيح أن هناك دراسة ممولة من الجانب الأمريكى حول هذا الطريق الصحراوى الذى سوف يربط الفيوم بالإسكندرية؟ وهل بدأت هذه الدراسة فعلاً أم أنها لا تزال فى حيز الإعداد ( ) ؟
أسئلة عديدة نطرحها مؤقتاً،
ولكن الجعبة لا تزال عامرة بالمفاجآت!!! "

المقالة الثانية

دور المعلومات في الاستراتيجية الامريكية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق