العبودية الطوعية
اسم الكتاب: مقالات العبودية الطوعية
تأليف: إيتيان دو لا بويسي
المترجم : عبود كاسوحة
الناشر : بيروت : المنظمة العربية للترجمة
سنة النشر : 2008
عدد الصفحات : 262
مقدمة
توفي إتيِين دو لابويسيه (1530-1563) في سن مبكر، كان عمره 33 سنة، وقد خلفت وفاته حزنا عميقا في نفس صديقه مونتينْيْ. ومن أشهر ما تركه كتاب "مقالة العبودية الطوعية" / "مقالة في العبودية المختارة" (1547 أو 1548). كان هذفه هو نفس هدف معاصره ميكيافيلي: تعرية مصادر السلطة. ولكنه يراقب الوضع من جهة الشعب لا من جهة الحاكم. في البداية يتساءل حول مصدر خنوع الناس لسيد واحد يكون طاغيا أحيانا، ومن الواضح بالنسبة للا بويسييه أن الطغيان السياسي والعبودية ليس أمرا طبيعيا على الإطلاق، حتى أن الشعب من خلال عدد أفراده وقوته هو القادر على قلب الأوضاع لصالحه. وبالتالي يتساءل كيف نفهم هذا الرضوخ لسلطة الحاكم؟
الناشر : بيروت : المنظمة العربية للترجمة
سنة النشر : 2008
عدد الصفحات : 262
مقدمة
توفي إتيِين دو لابويسيه (1530-1563) في سن مبكر، كان عمره 33 سنة، وقد خلفت وفاته حزنا عميقا في نفس صديقه مونتينْيْ. ومن أشهر ما تركه كتاب "مقالة العبودية الطوعية" / "مقالة في العبودية المختارة" (1547 أو 1548). كان هذفه هو نفس هدف معاصره ميكيافيلي: تعرية مصادر السلطة. ولكنه يراقب الوضع من جهة الشعب لا من جهة الحاكم. في البداية يتساءل حول مصدر خنوع الناس لسيد واحد يكون طاغيا أحيانا، ومن الواضح بالنسبة للا بويسييه أن الطغيان السياسي والعبودية ليس أمرا طبيعيا على الإطلاق، حتى أن الشعب من خلال عدد أفراده وقوته هو القادر على قلب الأوضاع لصالحه. وبالتالي يتساءل كيف نفهم هذا الرضوخ لسلطة الحاكم؟
" أود الآن أن أدرك فقط كيف أن عددا من الناس، وعددا من البلدات وعددا من المدن وعددا من الأمم، تعاني الأمرين أحيانا على يد طاغية واحد، لا يملك من القوة سوى تلك التي يمنحونه إياها، والذي ما من قدرة لديه على الإضرار بهم إلا بمقدار ما يريدون هم أ، يقاسوا. والذي ما كان بوسعه إلحاق أي أذى بهم لولا أنهم يفضلون تقبل كل شيء منه بدلا من معارضته. لا ريب أنه أمر مذهل، ومألوف جدا مع ذلك، حتى ليثير الألم أكثر مما يبعث الدهشة، لدى رؤية ملايين وملايين من الناس رازحين في العبودية والشقاء وأعناقهم تحت النير، وليسوا مرغمين بفعل قوة قاهرة لكنهم (على ما يبدو) مفتونين ومسحورين بفعل إسم فرد واحد، ليس عليهم أ، يخشوا قدرته، لأنه وحيد، ولا أن يحبوا مناقبه لأنه عديم الرأفة بهم ومتوحش..."
( مقالة العبودية الطوعية، إتيان دو لا بويسي، ترجمة: عبود كاسوحة، ص 147).
يقدم لا بويسي مجموعَة من المبررات: التقاليد، المعتقدات والسلبية التي تجعل الناس يعتقدون أن وضعهم هذا وضع طبيعي، أن هذه هي طبيعة الأمور وأنهم لا يستطيعون تغييرها. و من العوامل التي تساهم في تكريس الوضع، الإعجاب الشديد بالقائد وبتجليات سلطته، فالشعب إذن يتحمل جزء كبيرا من المسؤولية على الحالة التي وضع نفسه بها، حالة "العبودية الطوعية". كما يؤكد لابويسي على نقطة أخرى وهي مهمة: الحاكم يعرف كيف يقسم الناس لكي يحكمهم. فهو يحسن استثمار الإنقسامات الداخلية للشعب، يجود على البعض بامتيازات كثيرة وشيء من سلطته...
من خلال إبراز بعض مصادر السلطة التي تنبع من الشعب نفسه، يدعو لابويسي هذا الإخير إلى أن يستيقظ ويتخلص من القيود التي تكبله. فالشعب وحده يملك القرار، له الخيار في "أن يكون عبدا أو أن يكون حرًا"، "أن يتخلى عن الحرية أو أن يستسلم للنير"، "أن يقبل الأذى، أو أن يواجهه". لا يجب أن نفهم من ذلك أن لابويسيه يدعو إلى الثورة أو العنف فهو يقول: " ليس ما يدعو إلى محاربة الطاغية، ليس ما يدعو إلى خلعه" (نفسه، ص:151)، كما يقول:
"لا أريدكم أ، تقلبوه أو أن تزعزعوه" (ص:154).
فلابواسيه يرى أن يجب أن يسلك دورب القانون ممهدا بذلك للنظريات التعاقدية للسلطة، فكما أن الشعب يصنع عبوديته فهو قادر على صنع حريته وذلك بالتوقف عن تبجيل الطاغية وبالكف عن خدمته ودعمه والتخلي عنه ليجد نفسه وحيدا ويفقد مشروعيته " كونوا مصممين على الكف عن خدمته من بعد، وها قد بتم أحرارا" (ص:154).
"أيتها الشعوب المسكينة والبائسة والحمقاء، أيتها الأمم المكابرة في دائها والعمياء عن نعمتها، أنتم تتراخون فتدعون الأجمل والأنقى من رزقكم يختطف من أمامكم، فحقولكم تنهب وتسرق، وبيوتكم تعرى من الأثاث القديم الذي كان لآبائكم، وتعيشون على نحو لا يسعكم معه الزهو بأنكم تمتلكون شيئا. يبدو أنكم إذا ترك لكم نصف ممتلكاتكم، ونصف عائلاتكم، ونصف حياتكم، تعتبرون ذلك سعادة كبرى".
- لا بويسي
قراءة/حنان اليوسفي
صحفية وباحثة مغربية
بالرغم من أنّ "لا بويسي" كتب هذه المقالة في عام 1548م أو 1549م، في وقت كانت فرنسا تمر بأزمة خانقة تميزت بالظلم والاستبداد. إلا أنها تمثل الحقبة التي نحنُ فيها بكل تفاصيلها ومستجدتها.
مع الكتاب باختصار شديد
يخلصُ المؤلف إلى أن مشكلة الاستبداد والطغيان تعودُ بالأساس إلى الشعوب التي تقترفُ "الذل" وَ "الاستكانة" وَ "الخضوع".. ومن ثمَّ هي من تَخلقُ طغاتها، على اعتبار أن "القطيع" هو من يُوجدُ "الراعيَ" ذا العصا الغليظة. الكاتبُ يحاول أن يردَّ المشكلة التي تتمظهرُ سياسياً إلى "الثقافة" لأنها -كما يرى- هي المسئولة عما لَحِقَ "الوعي" من تضليل، إذ عدمُ إدراك الناس لحريتهم التي فُطروا عليها هو ما جعلهم -بشكلٍ تلقائي- ينخرطون -عن اختيار محض- في التخلي عنها، وهذا واضح، لأنك لن تتحرك بالمطالبة بشيءٍ إلا بعد وعيك بأنه من حقوقك، أما كونك تعتقد أن هذا ليس لكَ بحق؛ فلن تنهض يوماً بالمطالبة به.
"نقد النقد" ممارسة فكرية عالية المستوى. ولأننا نعرفُ اللهَ تعالى عبرَ وحيه المصون وهو القرآن الكريم، وهو ينصُ صراحةً على وحدة المنبت البشري؛ فإن الناس سواسية كأسنان المشط |
وعلى سبيل التقريب فكما يحصل كثيراً أن نجهل بعض الأنظمة في مراجعاتنا للدوائر الحكومية، فإننا غالباً نسير وفقاً للمعتاد ولا نطالب بخلاف المعهود من الإجراءات، لكننا إذا علمنا أن النظام ينصُ على أن ثمة حقوقاً لنا هي في واقع الحال مهدرة؛ فسوفَ ستستيقظُ فكرة "المطالبة وَ "عدم التنازل" في أذهاننا، وربما خامرتنا رغبةٌ في "التمرد" وَ "الاعتراض".
إذن يتركّز التفكيرُ هنا في إعادة بناء "الوعي" حول فكرة "الحقوق" نفسها: ما أصلها؟.. وما الذي يحدد نطاقها؟.. ومن أين تستمدُ شرعيتها؟.. وأينَ الدين من هذا كله؟.. وهل الدين مسئول عن تزييف وعي الناس بحقهم؟.. ثم هل للعقل قدرة على استنباط أصلٍ لفكرة الحق؟.. ومن أين يستنبطه؟..
وهذا ما أدى لاحقاً إلى نشوء فكرة "الحق الطبيعي" باعتبارها شرعية بديلة عن "الحق الإلهي"، وكون الطبيعة هي "المتن" الذي ستستنبطُ منه الأطر الحاكمة للأخلاق والقوانين والنظم.. بل والقيم، بعدَ أن تم إلغاء -أو استبعاد- "المتن الديني" بكافة ملحقاته التفسيرية البشرية باعتباره خطاباً بشرياً منسوباً إلى الله سبحانه، وأدى إلى مساندة الظلم والخرافة ضد الحق والعلم. وهنا يجب أن ننتبه إلى السياق التاريخي يتحدث عن تجربة المسيحية في أوروبا.
مجملُ القول: إن المقالة -الكتاب- تنطلقُ من مشكلة سياسية إلى تقرير قضية حقوقية يتمُ تشخيصها باعتبارها أزمة وعي بفكرة "الحقوق" ذاتها.
والآن.. وبناءً على ما مضى تأكيدُه من ضرورة استحضار فكرة "السياقات" في قراءة التجارب الحضارية، فإن "نقد النقد" ممارسة فكرية عالية المستوى. ولأننا نعرفُ اللهَ تعالى عبرَ وحيه المصون وهو القرآن الكريم، وهو ينصُ صراحةً على وحدة المنبت البشري، وأن الإنسان مخلوقٌ مكرمٌ، وأن معيار التفضيل الإلهي هو "التقوى" لا غير، هذا في الآخرة أما في الدنيا؛ فإن الناس سواسية كأسنان المشط، هذا هو ما يُفهم من الخطاب القرآني.
ولم يسبق -فيما أعلم- أن كان للدين في تاريخ المسلمين مؤسسات قائمة بذاتها ولها سلطة الأمر والنهي، ولم يسبق أن كان الدين -عبر مؤسسات- عقبة أمام تفكير أو إبداع، صحيح كانت هناك فتاوى تدّعم موقف سلطة معينة، لكنها معارضة بفتاوى أخرى، ثم هي مسالك فردية، وكان للناس قدرة معينة في التمييز بين الأمرين عبر التحاكم إلى النصوص الواضحة، فتمَّ تقسيم العلماء في الوعي الشعبي إلى: "علماء سلطان" وَ "علماء آخرة".. إلى غير ذلك من المظاهر التي تؤكد أن الدين -الإسلام تحديداً- لم يكن يوماً عبأً على الحقوق أو مشرعاً للظلم، بل إن الثورات ضد السلطات الحاكمة كان مبعثُ كثيرٍ منها هو "الدين".
ومن هنا أنا ضد التساهل مع نقول تستخف بـ"الله" عبرَ نقدها للخطاب الذي يُنسبُ إلى الله وهو "الدين" وهذا ما تؤكده مقالة العبودية الطوعية. إن الخطابَ يُنسبُ إلى الناس باعتبار اعتناقهم إياه، ويُنسبُ إلى الله تعالى باعتباره من أنزله، وُينسبُ إلى الآراء والاجتهادات باعتبارها تنطلقُ منه وفي حدوده، مع أنها ليست معصومة، والنصُ نفسه يمنحنا شرعية نقدها وفقاً لمنهجية معينة.
يجبُ أن نحتفي بالاسم الكريم "الله"، وألا نسايرَ غيرنا في ابتذاله -مهما كان الأمر-، لأننا نعي مكمن الخطأ عندهم، فـ"الله" جلَّ جلاله أنزلَ وحيَه الذي تضمّنَ كلَ عدلٍ وخيرٍ ورحمة، "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ"، فكونُ الأفهامُ البشرية تخطئ في فهم رسالات الله لا يسوغُ لها النيل من اسمِ ربِ العالمين عبر إطلاقات غير مسئولة..
خلاصة القول: "كما تكونوا يولى عليكم".
*****
قراءة/عبد الرحيم العلام
- باحث في العلوم السياسية.
eelaalam@gmail.com
لم نولد وحريتنا مِلكٌ لنا فحسب، بل نحن مكلَّفون أيضاً بالدّفاع عنها.
"دي لا بويسي".
طرح الشاب "إيتيان دو لا بويسي" سؤاله المِحوري، الذي بقدر بساطته بقدر صعوبة الإجابة عنه، مصوغا على الشكل التالي: كيف يستطيع شخصٌ التحكّم في رقاب الملايين ممّن يسمّيهم "رعاياه"؟
فجاء الجواب على شكل مقالة سرّية تداولتها النخب التي ترمي إلى التغيير، وكان ذلك سنة 1548 حيث كانت أوربا تعيش تحت نير الاستبداد وخاصة فرنسا، وحيث كان مكيافيل يحاول التغيير على طريقة نصح المستبد.
فنال بذلك لابويسي لقب المناضل المُصلِح واعتُبرت مقالته بمثابة رسالته ضد حكم الفرد تحت عنوان: مقالة في العبودية المختارة/ الطوعية، وهي المقالى التي تُعدّ من أهم المناشير التي ساهمت في تكريس الفكر الثوري، وحثّ المواطن الذي كان يُعدّ "رعية" وقتئذ. حيث كلما اشتد الاستبداد وقويَت شوكته، كلما برزت مقالة لابويسي واكتسبت راهنيتها إلى يومنا هذا.
نحاول في هذه الفقرات تسليط الضوء على بعض مضامين "مقالة ضد حكم الفرد" أو "مقالة في العبودية المختارة" كما أضحت تُسمّى فيما بعد، وذلك من خلال بعض المقتطفات التي من شأنها تحفيز القارئ على العودة إلى الكتاب كاملا، والذي صدرت ترجمته باللغة العربية عن "المنظمة العربية للترجمة".
(....) فأما الآن فلست أبتغي شيئاً إلا أن أفهم كيف أمكن لهذا العدد من الناس، من البلدان، من المدن، من الأمم أن يحتملوا أحياناً طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته. إنه لأمر جلل حقاً وإن انتشر انتشاراً أدعى إلى الألم منه إلى العجب أن نرى الملايين من البشر يخدمون في بؤس. هكذا يوضّح صاحب "مقالة في العبودية المختارة" إشكاليته، والهواجس التي تخترقه.
وفي سعيه لمعالجة هذا الاشكالية، نجد لابويسي، سستنجد بالأسئلة المتعددة التي من شأنها إبقاض ضمير مواطنيه في ذلك الحين من قبيل: و لكن ما هذا يا ربي؟ كيف نسمي ذلك؟ أي تعس هذا؟ أي رذيلة، أو بالأصدق أي رذيلة تعسة؟ أن نرى عدداً لا حصر له من الناس لا أقول يطيعون بل يخدمون ولا أقول يُحكمون بل يُستبد بهم،(...)، هو في معظم الأحيان أجبن من في الأمة وأكثرهم تأنثاً، لا ألفة له بغبار المعارك وإنما بالرمل المنثور على الحلبات (إن وطئها) ولا يحظى بقوة يأمر بها الناس، بل يعجز عن أن يخدم ذليلاً أقل أنثى ! أنُسمي ذلك جبناً ؟ فهو لم يتنشّق رائحة بارود المعارك، ولا تتوفر له القدرة على قيادة الرجال، بل حتى على تلبية مطالب أضعف امرأة، أنقول أن خدامه حثالة من الجبناء؟(...).
لم يكتف المؤلف بطرح الأسئلة، وإنما ذهب أبعد من ذلك عندما كان سبّاقا إلى التوسل بما يقدمه التحليل النفسي فس السياق هذا، وهو الأمر الذي يستبه إليه بعد قرون "علم النفس السياسي" خاصة مع غوساف لوبون في كتبابه "سيكولويجة الحشود". يقول لا بويسي في محاولة تفسير خوف الانسان: "فلقد يخشى إثنان واحداً ولقد يخشاه عشرة. فأما ألف، فأما مليون، فأما ألف مدينة إن هي لم تنهض دفاعاً عن نفسها في وجه واحد فما هذا بجبن، لأن الجبن لا يذهب إلى هذا المدى، كما أن الشجاعة لا تعني أن يتسلّق امرؤ وحده حصناً أو أن يهاجم جيشاً أو يغزو مملكة. فأي مسخ من مسوخ الرذيلة هذا الذي لا يستحق حتى اسم الجبن ولا يجد كلمة تكفي قبحه، والذي تنكر الطبيعة صنعه وتأبى اللغة تسميته؟.
لا يخلو الكتاب من تأكيدات تكاد تكون جازمة من مؤلّف اعتاد الاكثار من الأسئلة، وهكذا راح يقول: "حينما يتحوّل أحد الملوك إلى طاغية فإن كل ما في المملكة من شرّ ومن حثالة، يجتمعون من حوله ويمدّونه بالدعم لينالوا نصيبهم من الغنيمة (...) وحين أتفكّر في هؤلاء الناس الذين يتملّقون الطاغية من أجل أن ينتفعوا بطغيانه وبعبودية الشعب، يتولاني الذهول حيال شرّهم بقدر ما تنتابني الشفقة حيال غبائهم، فهل يعني تقرب المرء من الطاغية سوى ابتعاده عن الحرية، وبالتالي ارتمائه كلياً في أحضان عبوديته"، ويضيف صاحب المقالة في موقع آخر: "إذا ما التقى الأشرار فإنهم لا يؤلِّفون مجتمعاً بل مؤامرة، وهم لا يتحابون بل يخشى بعضهم بعضاً، وليسوا أصدقاء، بل هم متواطئون.. يا إلهي، كيف يكون المرء منشغلاً ليلاً ونهاراً بإرضاء رجل، ويحذر منه ويخشاه أكثر من أي شيء في الدنيا".
وبعد توصيف للوضع السياسي، والأمزجة النفسية لكل من الطاغية ومتلّقيه، يذهب "لا بويسي" رأسا إلى اقتراح، ما يعتقدها حلولا، لمواجهة سطوَة الطاغية، ووضع حد لحكمه، يقول في هذا الصدد: " ...يبقى القول بشأن هذا الطاغية وحده، فهو لا يحتاج للمحاربة، وليس ما يدعو للقضاء عليه، فهو مقضي عليه تلقائيا، بشرط ألا يَقبل البلد أن يكون مستعبَدا له، ليس المقصود انتزاع أي شئ منه بل عدم منحه أي شيء، هي إذا الشعوب التي تستسلم بنفسها لسوء المعاملة، لأنها إذا تخلّت عن خدمته تصبح متحررة,(...)كذلك هي حال الطغاة، فكلما نهبوا وكلما ازداد الإغداق عليهم، تشتد سطوتهم(...)أما إن لم يعطوا شيئا، ولم تقدم لهم فروض الطاعة، فإنهم، ومن غير قتال أو توجيه ضربات، سيلبثون مجرّدين مسحوقين ولا يبقى لهم من كيان، فحالهم كحال الغصن حين تنقطع عنه العُصارة التي تغذيه من جذوره، فيجف ويموت".
وبأسلوب نضالي يدعو صاحب"العبودية المختارة"، "الرعايا" إلى هجر واقعهم الذي لا ترضى عنه حتى البهائم، ناصحا إياهم بأن مجرد الرغبة في التغيير تعطي أكلها. إذا نقرأ له بتعبيره ما يلي: "إن بوسعكم التخلص من تلك الموبقات الكثيرة التي لا تقوى البهائم على تحملها لو كانت تحس بها، إن بوسعكم التخلص منه إذا سعيتم(...)لاتسعوا إلى التخلص منه بل أعربوا عن الرغبة في ذلك فقط، احزموا أمركم على التخلص نهائيا من الخنوع وها انتم أحرارا. أنا لا أريد منكم الإقدام على دفعه أو زحزحته، وإنما الكف عن دعمه فقط، ولسوف ترونه مثل تمثال عملاق نزعت قاعدته من تحته، كيف يهوي بتأثير وزنه فيتحطم".
انتهى الاقتباس ويمكن للقارئ الرجوع إلى النص الأصلي للتدبر والتفكر، ونختم بهذه الكلمات الدالة: إن الشعب الذي يستَسلِم بنفسه للاستعباد يعمَد إلى قطع عُنقه، والشعب الذي يكون حيال خيار العبودية أو الحرية، فيدَع الحرّية جانباً ويأخذ نير العبودية هو الذي يرضى بالأذى، بل يسعى بالأحرى وراءه.
قراءة صوتية
مقال في العبودية الطوعيه- للمفكر والقاضي الفرنسي إتيان دو لا بويَسي/كتاب صوتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق